مهلاً يا من تقيمني 

مهلاً يا من تقيمني 

سعد وليد بريدي

تدور رحى الحياة بطريقةٍ مبهمةٍ للغاية....

خليفةٌ استخلفتهُ السماء على الأرض سُمي بالإنسان، رحل وسكن وجاع وحَبَ، وكره، وقاتل، واغتصب، وحَن، وخاف، وطغى، وعَدُلَ، وظلم، وبنى، وهدَم.....

مسيرة من الكلمات ذات التضاد، تكتبُ وتشرحُ حال هذا الإنسان بمختلف مراحلهِ وأحقابه منذ أن نزل من الجنة مطرودًا منها  وصولاً للحظةِ قرائتك لهذا الكلام ......

الشيء الذي أقفُ أمامهُ مذهولاً مستغربًا، هو الوزر الذي يستمر بحمله لأجيال وأجيال سواءً أكان هذا الوزر خيرا أم شر...

لا تطل التفكير فكنياتنا على سبيل المثال ملصوقةٌ فينا لأسباب قديمة، فذاك من عائلةِ الخباز وهذا عائلتهُ الطحان وذيكَ من آل الحلاق وتلك تنتمي لعائله السياف وهؤلاء من بني النجار.....

فصديقنا من عائله الخباز قام أحد أجداده بتخمير العجين ليلاً وعند انبلاج الصباحِ خبزهُ وباعهُ للناس لذلك صاروا يقولون عنه الخباز... جاء الخباز وذهب الخباز...

وحينما أتى نسلهُ قالوا إبن الخباز وبنتُ الخباز وهكذا دواليك!.....

قد تضحك بسرك حينما تدخل عيادة طبيب جراح مشهور وتقرئ اسمهُ على لافتةِ العيادة فتجدهُ من عائلة الجزار، فتقول كيف استوى الطب والذبح....

كلا يا سيدي حتما كان أحد أجداده جزارًا - وهذا طبعاً لا عيب فيه- ثم استمرت هذه التسميةُ لأجيال وصولاً لطبيبنا المذكور أعلاه، إذاً هي سمةٌ نحملها معنا ونحن لا ذنب لنا فيها لأنهُ اسمٌ التصق بنا دونَ إرادةٍ أو اختيار.....

الأمر يكاد ضمن حدود الطبيعة، فمن منا اختار اسمهُ أو لون شعرهِ أو ميل خرطومِ أنفه، لقد ولدنا هكذا و وجدنا أنفسنا نحمل أسماءً ليست لنا مع أنها بالحقيقة لنا!!!

ومن هذا وذاك وإذا ما ابتعدنا بالدائرة أكثر فإننا نجد الجنسيةُ التي نحملها لا ذنب لنا بها بل وجدنا أنفسنا ضمنها مجبولين بها ، نحن منها وفيها، تصبُ علينا لعناتها أو رحماتها ، تُكرمنا أو تهيننا...

بالله مهلا! نحن لا ذنب لنا بها لكنها ترسمُ حدودنا وتحدد نهجنا وتعد علينا خطواتنا ، حتى منذُ الأزل حينما لم يكن للجنسيةِ وجود كنا ننعتُ أنفسنا من الــمَــصرِ الذي انحدرنا منهُ، فيقولون هذا أندلسي وذاك نوبي وفلانٌ خرساني هذا مروزي....

وحينما تقدمنا بالزمن وصارت الخريطة أكثرُ شراسةً وصارت التقسيمات الإدارية أكثر بهرجة، عاودنا النعت وصرنا نقول هذا من دولةِ كذا و ذاك من دولةِ كذا....

وازداد طبعا معها توصيفنا وأحكامنا، فشئنا أم أبينا تظهر شوفيتنا من خلال كلامنا عن انتمائآتنا لهذه الدول، إذ يلتصقُ بنا الوصف المقصود بهِ دولتنا وليست أوصافنا الفردية..

إذًا لما تزل فينا نعراتُ الرعيلِ الأول لم تتغير رغم تغيرِ الزمن الذي حواها ذاك الوقت ولايزال يحتوينا حاليًا.... 

وبما أننا تفننا بسرعةِ الأحكام فلا ضير أن نستمر بنبذِ عائلةِ فلان رغم صلاح معظم أفرادها لكننا نقول: دعكَ منهم فجدُهم كان قاطعُ طريق وعليك أن تنتبه بأن  العرقَ دساس نخاطب أنفسنا محاولين إيجاد ذرائعَ واهية نجابههُ بها  كمن يحاول حجب الشمس بالغربال......  

كذلك كم مدحنا فلاناً بعينهِ رغم أن أياً من مواطنِ الفخر والمديح لا تتوفر فيهِ لكننا نصوغ الحجج ذاتها و نقول بأن جدهُ فلان كان من أخيار الناس وأحسنهم خُلقاً رغم أن حفيدهُ هذا لا يحمل هاتيك الصفات التي أَطَرَت جدهُ لأننا ببساطة نُقيمُ عبر الإنطباع السائد وعبر الإنتماء الأسري أو العرقي وليس عبر الوازع الأخلاقي...... 

أنا جئتُ لعالمٍ ما اخترتُ فيهِ انتمائي ولا عرقي ولا طائفتي ولا لون قزحية عيني ولا سوادَ أو احمرارَ بشرتي ولا حتى تفلطحُ جمجمتي....

أرجوكَ عاملني على أشيائي المكتسبه لا الخلقية ، إن كنتُ أنتمي لمجتمعٍ فقير  أو عائلة متعففة فهذا لن يُفقر أخلاقي  -إن هذبتها أنا - بل سيزيدها بسطةً بالثراء والغنى، ولا تحكم على فلانٍ بحكمٍ وتينهُ التاريخ فقط سواءً أكان جدهُ مجرماً أو عالماً فهذا لن يثنيهُ عنِ الصلاحِ ولن يبدل كفرهُ لإيمان طالما أنهُ لم يرد التغيير من تلقاءِ ذاته ففاقد الشيئ حتماً لن يعطيه....

أنا لا ذنب لي بتبعيةِ جنسيتي مهما كانت أو تكن ، بالنهايه أنا إنسان حر تحت أشعة الشمس وبرئتي شهيقُ هواء أتقاسمهُ مع  الحملِ الوديع ومع الضبعِ المفترس .... فاحترامكَ لي يجب أن يُـبنى على ما تتلقاهُ مني من معاملة وأخلاق وسلوك....

أرجوك...

أغمضِ عينيكَ الآن واعصف مخك قليلاً وفكر بأمرٍ واحد  وتذكر بأن دود الأرض أكل جثة الإنسان بباطنها بكل شراهة وما امتنع عن الأكل لأنهُ من عائله فلان أو لأنهُ ينحدر من ذاك المكان، فلا فرق هنا بين أحد بعدما صارَ تحت الثرى وفوق شاخصةِ  القبر..... 

أعد تقييمي عبر أخلاقي و سلوكي، ودعك من جنسيتي ولونُ بشرتي وصفاتَ جدي ، نعم العرقُ دساس لكن عندما يندسُ نحو أخلاقي فإنهُ يكون طوع يدي أنا ولا أكون طوعَ يديه.

التعليقات