العلم وصياغة المستقبل

أحرص من عدد من السنوات على حضور الأسبوع العالمي للمياه والذي يقام في سنغافورة بشكل سنوي ويكون بمثابة ملتقي عالمي لكل الأفكار وعرض لأحدث البحوث والدراسات والتقنيات في مجال الموارد المائية. وفي هذا المنتدى العالمي يتم الإعلان عن جائزة لي كيوان ليو وهي واحدة من أكبر الجوائز التي تمنح في مجال الموارد المائية في سنغافورة. ومنذ خمسة أعوام تم منح الجائزة لأحد العلماء هو الدكتور أندرو بندويك والذي كنت قد أطلعت على بحوثة ودراسته في مجال تطوير الأغشية منخفضة الضغط. وبعد حفل الجائزة تقابلت مع الرجل وهنأته بالجائزة وطلبت منه بعض الشرح حول التقنية الجديدة ولماذا حصل على الجائزة فطلب مني أن أزوره في مكتبه في جامعة سنغافورة الوطنية. وفي اليوم التالي بالفعل قمت بزيارته في مكتبه والذ ي بدا لي مكتباً بسيطاً لكنه نظيفاً ومنظماً وبعد الترحيب سألته عن الأغشية منخفضة الضغط فقام بالإشارة إلي مكتبته وعلى رف محدد. فلما نظرت للرف وجدت عليه عدداً من الرسائل العلمية لدرجتي الماجستير والدكتوراه صغيرة الحجم مرتبة زمنياً لمدة حوالي عشر سنوات وبجوارهم نموذج لأحد الأغشية على مكتبه. فقال لي أنه منذ عشر سنوات تقريباً جلس يفكر في صناعة غشاء يستخدم ضغط أقل مما يقلل الطاقة والتكلفة وزيادة قطره ليصل إلي 24 بوصة وهو ما يعني الوصول بإنتاج نحو 50 ألف متر مكعب يومياً من المعالجة من هذا الغشاء لكن قابلته العديد من الصعاب الفنية. فقام بصناعة نموذج لهذه الغشاء هو الموجود على الرف أمامي ووجد في طلابه من الباحثين لدرجة الماجستير والدكتوراه ضالته. حيث طلب من كل طالب منهم القيام بدراسة أحد المشاكل ومحاولة إيجاد حل لها وكان يجييز للطالب الذي يضع يده على أحد المشاكل ويحاول حلها سواء نجح في ذلك أو أخفق رسالته ويعتبره ناحجاً. ثم يطلب من زميل له بعده إستكمال المشوار للوصول إلي الحل وإستكمال المشوار الذي سبقه فيه زميله. وبعد عشر سنوات تقريباً قام مع طلابه بوضع حلول لجميع الصعوبات التي واجهته في البداية. وقد تبنت أحد الشركات التجارية إنتاجه على المستوى التجاري وهو ما إعتبر طفرة علمية في تقنية معالجة مياه الصرف الصحي بالأغشية منخفضة الضغط. وقد قامت الشركة المنتجة بتسويق هذا المنتج في أول سنة من إنتاجة بحوالي مليار ومائتين مليون دولار سنغافوري تقريباً. 

أقول هذا بمناسبة إستلامي لرسالة دكتوراه لتحكميها من أحد الجامعات العربية تجاوز عدد صفحاتها 375 صفحة وحين قرأتها صدمت من محتويات الرسالة وحجم القص واللزق الذي لا فائدة منه علمياَ على الإطلاق وكون الرسالة لم تقدم أي جديد. وبالرغم من ملاحظاتي عليها فقد تم إجازتها من القسم ولم يطلب حتى من الطالبة صاحبة هذه الرسالة تعديلها أو التقيل من حجم الحشو. وهو ما يعكس حجم المشكلة التي نواجهها والفرق الشاسع بين مفهوم البحث العلمي لدينا وبعض الدول المتقدمة.  والغريب أنك حين تحاول مناقشة هذا الموضوع فإنك سوف تجد من يتحجج بالعوامل والظروف المحيطة بالطالب وجو البحث العلمي بشكل عام من حيث ضعف الإمكانات وضعف الرواتب وعدم توافر المعامل والبيئة العامة المشجعة على البحث العلمي. وبالرغم من التأكيد على وجود الكثير من التحديات التي تواجه البحث العلمي في وطننا العربي إلا أن هذا في رأيي المتواضع مبرراً لهذه الحالة من الضعف التي لا ترضي أحداً. فقد أصبحت وسائل البحث وتوافر البحوث والدراسات والمكتبات الإلكترونية شئيا غير مسبوق على الشبكة العنكبوتية. إن الناظر لوضع البحث العلمي في الوطن العربي يلاحظ أن هناك الكثير من العقبات والصعوبات والتحديات التي تعترض البحث العلمي وتحد من أدائه لدوره المتوقع منه، مما أدى إلى تأخر عملية التنمية والتطور في عالمنا العربي ولابد أن ننتبه إلي أن التقدم العلمي قد يساعدنا على حل الكثير من المعضلات الإقتصادية التي تواجهنا وذلك من خلا تطوير تقنيات تدر دخلا أو تقلل في تكاليف الإنتاج وحل المشاكل.

ويحتاج البحث العلمي إلي مراكز بحث علمي ومعاهد تعليمية تتبني مناهج إستراتيجية علمية واضحة المعالم، وقابلة للتطبيق وقبل ذلك إدارة سياسية داعمة، تؤمن بأهمية البحث العلمي في تقدم وتطور الدول والمجتمعات. كما يحتاج إلى كوادر مؤهلة أكاديمياً وقيادياً وعلماء مبدعون في ميادينهم، مدركون للتحديات التي تواجهها المنطقة العربية وآلية تسخير العلم لمجابهة هذه التحديات. إن تقدم البحث العلمي باختصار هو الطريق إلى مواكبة العصر وإستثمار العلم في حل مشاكلنا الاقتصادية والصناعية والزراعية والصحية والاجتماعية. ومما لاشك فيه أن من أهم مقومات البحث العلمي والتطوير توفر حرية أكاديمية مسؤولة عن مقاربة مشكلات المجتمع، كما يحتاج البحث العلمي الرصين للدعم المادي والمعنوي الكافي، وكذلك المتطلبات الضرورية من التقنيات الحديثة، والمختبرات والمراكز العلمية الملائمة، والخدمات الإدارية المساندة. بهذه الشروط تمكنت البحوث العلمية في المراكز والمعاهد العلمية في الدول المتقدمة من إدخال تغييرات جذرية على برامجها التعليمية، ونظمها الإدارية والاقتصادية والاجتماعية.            

د. محمد عبد الحميد  داوود               

مستشار الموارد المائية، الإمارات العربية المتحدة

التعليقات