نواصل وضع الغرب فى المرآة أمام نفسه والعالم،عاريا من كل القيم التى يعتنقها وتضمنتها دساتيره بل وأسس تدويلها عبر المنصات العالمية، من خلال بيان ازدواجية مواقفه من القضية الفلسطينية. قد يتساءل البعض عن سبب التركيز على كشف تناقضات مواقف القوى الغربية دون غيرها، ولماذا مثلا لم نتحدث عن القوى الشرقية أو حتى العالمين العربى والإسلامي؟ والإجابة ببساطة هى أنه على الرغم من أن كشف تقاعس الغرب، لا يعفى القوى الأخرى من مسئوليتها، إلا ان القوى الغربية تتحمل العبء الأكبر من المسئولية لعدة أسباب:
أولا:أنها هى التى زرعت «إسرائيل» فى المنطقة حلا لما سمى بـ»المسألة اليهودية».
ثانيا:أنها دأبت على دعم «الكيان» بأشكال عديدة عسكريا ولوجستيا وسياسيا طوال احتلال الأراضى العربية منذ عام 1948.
ثالثا:أن أغلبية الدول التى لديها حق الفيتو بمجلس الأمن غربية، ويستخدم عادة ضد المصالح العربية.
ورابعا: أن الغرب يلعب على مدى عقود عديدة دور المعلم والمؤسس لهذه القيم والمواثيق الدولية والراعى لها فقد نصّبت الدول الغربية، نفسها حامية حمى حقوق الإنسان ومنارة القانون الدولي، عبر تقارير تصدر عن انتهاكات حقوقية هنا وهناك، وعقوبات تُفرض على دول لا تلتزم «بالمعايير الدولية». ولكن، عندما يتعلق الأمر بالعدوان الإسرائيلى على غزة والاحتلال المستمر للأراضى الفلسطينية، تتكشف ازدواجية صادمة تفضح زيف هذه الادعاءات، باستثناء بعض التصريحات الجوفاء الخالية من أى موقف عملي.
كنا قد ذكرنا فى المقالين السابقين تسلسل تجليات العار الغربى تاريخا، والمواقف التى تؤكد ذلك، باعتبارها تاريخٌا من الاصطفافات المتشابهة، ضد المعتدى عليه ما دام عربيا أو مسلما منذ عهد الاستعمار، واليوم نسلط الضوء على تنكره لقيمه ومبادئه الإنسانية حتى مع مواطنيه أنفسهم عندما يتعلق الأمر بالتعبير عن رأيهم الرافض للعدوان الإسرائيلى على فلسطين. فلا تقتصر ازدواجية المعايير لدى غالبية الدول الغربية على الصمت تجاه الانتهاكات فى غزة فقط، بل تمتد لتشمل قمع الأصوات المعارضة داخل حدودها. فبالرغم من أن دساتير تلك الدول تنص على حرية التعبير والتجمع السلمي، فإن الممارسة فى العديد منها أظهرت تناقضاً صارخاً عندما يتعلق الأمر بالتضامن مع الفلسطينيين ضد جرائم الحرب والإبادة الجماعية التى ترتكبها إسرائيل بغزة ، ويتجلى ذلك فى عدة شواهد، أبرزها:
- حظر عشرات المظاهرات السلمية المؤيدة للفلسطينيين بعدة دول اوربية، بذريعة «مخاوف أمنية» ففى ألمانيا، مثلا، تم حظر 99 فعالية ومظاهرة موالية للفلسطينيين. بما يناقض الحقوق الدستورية للتجمع السلمي.
- تجريم التعبير عن التضامن من خلال اتهامات فضفاضة بـ»معاداة السامية» أو «دعم الإرهاب»، حتى لو كان التعبير مجرد دعوة لوقف إطلاق النار، وهو ما يخالف صراحة المادة 19 من الإعلان والعهد الدولى والمادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان .
- قمع نخب ومشاهير بسبب مواقفهم الداعمة لفلسطين. ومنهم فنانون مثل الممثلة الأمريكية سوزان ساراند الحائزة على جائزة الأوسكار التى تعرضت لانتقادات شديدة بعد تصريحاتها فى تجمع مؤيد للفلسطينيين، وتم على إثرها إسقاطها من وكالة المواهب (UTA) بذريعة «المعاداة للسامية» (وهو ما نفته ساراندون)، والممثلة الأمريكية أنجيلينا جولى التى واجهت انتقادات لاذعة من وسائل إعلامية ومنظمات موالية لإسرائيل بعد أن وصفت غزة - على «انستجرام» - بأنها «سجن مفتوح». وتم فصل الممثلة المكسيكية مليسا باريرا - التى كانت نجمة فى سلسلة أفلام- «Scream» من فريق عمل فيلم «Scream 7» عقب وصفها ما يحدث فى غزة بأنه «إبادة جماعية»
وشهدت الجامعات الغربية حالات إيقاف عن العمل وطرد أكاديميين بسبب رفض العدوان على غزة. فقد تعرض العديد من الأساتذة والطلاب بجامعات أمريكية مثل كولومبيا وبنسلفانيا، وهارفارد لتحقيقات داخلية، وللفصل بعد التعبير عن دعمهم الفلسطينيين، وتم اعتقال المئات من الطلاب بجامعتى كولومبيا وكاليفورنيا .كما تم فصل عدد من الإعلاميين، بسبب تغطيتهم القضية الفلسطينية أو تعاطفهم مع الضحايا. مثل إلغاء برنامج الصحفى البريطاني-الأمريكى مهدى حسن على «MSNBC» بسبب انتقاده سياسات إسرائيل وبعض حلفائها الغربيين.
بعد هذا السجل الملطخ بعار ازدواجية المعايير، هل يمكن للغرب أن يستعيد بعضاً من بريقه الأخلاقى الذى خبا تحت أنقاض غزة عبر موقف عملى حقيقى لوقف الإبادة الجماعية للفلسطينيين وتحقيق حل الدولتين؟!
التعليقات