من بين المقولات الكونية الكبرى، هناك مقولتان تجمعان بين الابتكار والهبة، الأولى: "الابتكار أكبر هبة في التاريخ" والثانية: "مصر هبة النيل" وإذا كانت الأولى صحيحة تماما، فإن الثانية احتاجت إلى تصحيح، لتصبح "مصر هبة النيل والمصريين" من خلال ابتكاراتهم وعطائهم الحضاري، لأن الكثير من بقاع العالم بها أنهار ولكن أيا منها لم ينتج للبشرية حضارة بالمستوى الذي أبدعه القدماء المصريون، والتي لا تزال شواهدها تدرس بجامعات العالم ضمن علم ارتبط باسمها:(علم المصريات). وعندما تجمد "الابتكار" وحل محله "الروتين" نتيجة عوامل وتحديات عديدة خلال حقب تاريخية سابقة، فقد تراجعت هذه الدورة الحضارية، ولذلك فإن الابتكار ليس فقط محورا تنمويا تضمنته "رؤية مصر الاستراتيجية 2030" وإنما يعتبر مطلبا وجوديا يمثل شريان حياة لأم الدنيا.
تناولنا في مقال سابق بعض المؤشرات المؤثرة في مجالات التعليم البحث العلمي والابتكار، بمناسبة موافق مجلس النواب أخيرا على مشروع قانون بإنشاء "المجلس الوطني للتعليم والبحث والابتكار" واليوم نستكمل الحديث عن هذه القضايا الهامة، ولكن لأن معالجتها تحتاج إلى عدة مقالات ومناقشات موسوعة، فسوف نحصر حديثنا اليوم على الابتكار التي كانت مصر رائدة فيها وقدمت للعالم عشرات الاختراعات في الانتاج الزراعي والصناعي والفنون والعمارة وغيرها.
للابتكار دور فائق الأهمية في دفع عجلة النمو الاقتصادي. إذ يمكن أن يُعزى النصيب الأكبر من الناتج الاقتصادي بالدول المتقدمة إلى الابتكارات التكنولوجية التي شهدتها فترة الـ 150 عام الماضية. بل أن الابتكار يخرق أحد أبرز القواعد الاقتصادية (ندرة الموارد) لأنه يمنح الإنسانية هبة تلو الأخرى، متيحا بذلك للاقتصاد إنتاج المزيد باستعمال نفس القدر من الموارد أو أقلّ، وفقا لـ"مارك شولتز، أستاذ حقوق بجامعة جنوب إلينوي الأمريكية. ومن ثم فإن يمكن من خلال الابتكار خلق فرص للنمو ودفع عجلة التقدم الاقتصادي، وهو ما يتفق مع أهداف رؤية مصر 2030 وبخاصة الهدف الرابع منها الذي يتناول آليات دعم المعرفة والابتكار عبر البحث العلمي؛ حيث تتخذ مصر من المعرفة والابتكار والبحث العلمي ركائز أساسية للتنمية، وذلك من خلال الاستثمار في البشر وبناء قدراتهم الإبداعية والتحفيز على الابتكار ونشر ثقافته ودعم البحث العلمي وربطه بالتعليم والتنمية. وهو ما يساهم في تحقيق الهدف الثامن من رؤية مصر 2030 الذي يركز على تعزيز الريادة المصرية على المستويين الإقليمي والدولي.
ولكن إذا اردنا تحديد موقعنا على خريطة الابتكار اليوم، سنجد أنفسنا أمام مفارقة عجيبة؛ فعلى الرغم من المبادرات العديدة التي تقوم بها الدولة لدعم الابتكار فإن ما يحدث على ارض الواقع يناقض ذلك، فقد انشأت الحكومة هيئات عديدة لدعم المبتكرين منذ عام 2009 (مثل: الهيئة العامة لتكنولوجيا المعلومات و برنامج "انطلاق" وصندوق دعم المبتكرين). كما أطلقت الحكومة مؤشر الابتكار الوطني"MOSAIC" . بالإضافة إلى عدد من المبادرات الداعمة للابتكار، كمبادرة "مصر تبدع"، فضلا عن إنشاء حاضنات الأعمال، ولكن كل ذلك لم يحدث التأثير المأمول على أرض الواقع، فعلى الرغم من أن مصر أحرزت تقدمًا في مؤشر الابتكار العالمي بتقدمها 3 مراكز في تصنيف العام 2023، لتحصل على المرتبة 86 عالميًّا من بين 132 دولة، مقارنة بالمركز 89 بالعام 2022، إلا أنه لا تزال تسبقها عدة دول بالمنطقة مثل الإمارات التي شغلت (المرتبة32) والسعودية(48) وقطر(50). وقد منح مكتب براءات الاختراع والعلامات التجارية الأميركي (USPTO) في عام 2015 فقط 325 ألفا و979 براءة اختراع لمختلف بلدان العالم. وفي منطقتنا حصلت السعودية على 364 براءة اختراع عام 2015 وعلى 1513 براءة في جميع السنوات الموثقة. والكويت على 64 براءة في العام ذاته و448 في مجموع السنوات؛ بينما حصلت مصر على 30 براءة عام 2015 و275 في مجموع السنوات.
وعلى المستوى المحلي يلاحظ تراجع عدد براءات الاختراع التي منحها مكتب البراءات المصري حيث بلغت 317 براءة اختراع عام 2023، مقابل 512 براءة عام 2022، بانخفاض نسبته 38.1%، موزعة بين 71 براءة اختراع للمصريين بنسبة 22.4٪، و246 براءة اختراع للأجانب بنسبة 77.6٪. الامر الذي يتطلب التعرف على أسباب هذه المفارقة بين تزايد مبادرات الدولة المشجعة على الابتكار وتراجع براءات الاختراع!
التعليقات