خلال اجتماع مجلس الوزراء الخميس الماضى، كشفت الحكومة، للمرة الأولى وبشكل رسمى، عن مشروعات استثمارية ضخمة تعيد التوازن إلى سوق النقد الأجنبى بما تحققه من موارد ضخمة من الدولار.
د. مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء، أعلن، خلال الاجتماع، أن هناك لجنة قانونية وفنية تم تشكيلها بمجلس الوزراء، لدراسة عروض الاستثمار فى مشروعات مهمة من المقرر أن تدر موارد ضخمة من النقد الأجنبى، مشيرا إلى أنه تمت الاستعانة بمكتب محاماة دولى بهدف إعداد الصياغات النهائية بشأن تلك الاتفاقيات وعقود هذه المشروعات، نظرا لوجود تفاصيل مالية وفنية وقانونية كبيرة.
رئيس الحكومة أكد أن هذه المشروعات سوف تحقق نقلة نوعية ومزايا متعددة للدولة المصرية، مضيفا أن مجلس الوزراء هو فقط المنوط به إعلان تفاصيل هذه المشروعات الاستثمارية الكبرى بعد الانتهاء من تفاصيلها.
بقراءة هادئة ودقيقة لتصريحات رئيس الحكومة خلال اجتماع مجلس الوزراء الأخير، يتضح أن الحديث عن المشروعات الاستثمارية الكبرى التى تحقق التوازن فى سوق النقد الأجنبى بين الدولار من جهة والجنيه المصرى من جهة أخرى لم يعد مجرد تخمينات أو تصريحات، وإنما دخل حيز التنفيذ الفعلى، وأن المسألة مسألة بعض الوقت الذى لن يطول لإعلان التفاصيل الكاملة لتلك المشروعات التى تستهدف بداية «انفراج» الأزمة الاقتصادية، خاصة ما يتعلق بكبح جماح الصعود العشوائى للدولار، وعودة الثقة والاستقرار إلى الأسواق المصرية من جديد، بعد أن شهدت الفترة الماضية حالة من «الارتباك»، وعدم الاستقرار نتيجة التداعيات الاقتصادية العالمية، وآخرها ما يتعلق بالحرب الدائرة الآن فى غزة، التى أثرت بالسلب على موارد وإيرادات قناة السويس، وكذلك موارد وإيرادات السياحة المصرية، خاصة فى شرم الشيخ ودهب ونويبع وطابا، وكذلك المقاصد السياحية الأخرى، وإن كان بدرجة أقل من تلك المناطق.
عودة الاستقرار إلى سعر الصرف هى بداية عودة الأمور إلى مسارها الطبيعى من حيث عودة تحويلات المصريين فى الخارج إلى قنواتها الشرعية فى البنوك، وكذلك عودة تدفق الاستثمارات الأجنبية والمحلية إلى معدلاتها الطبيعية، حيث يصعب تحقيق ذلك الهدف فى حال استمرار عدم استقرار سعر الصرف، لعدم قدرة المستثمرين على وضع دراسات جدوى واقعية للمشروعات، والتحويلات الخاصة بهذه المشروعات وعوائدها المتوقعة.
للأسف اعتقد البعض أن الدولة «غائبة» عن المشهد الاقتصادى، وأنها تركت سوق الصرف يذهب إلى حيث يريد دون رؤية أو إستراتيجية، وللأسف كشف بعض المضاربين والمحتكرين عن أنيابهم الزرقاء، وراحوا يحاولون إدارة المشهد من وراء ستار، وغذت كل ذلك شائعات خبيثة للمضاربة على أسعار الدولار والذهب دون حكمة أو تعقل.
أسهم كل ذلك فى «إرباك» حركة البيع والشراء بالأسواق، وبات سعر بعض السلع يتحرك على مدى اليوم الواحد أكثر من مرة، بما يؤكد مجافاة ذلك لكل الأعراف والقواعد الاقتصادية، ومن هنا بدأ التكالب غير المبرر من بعض المواطنين على شراء سلع ليسوا فى حاجة آنية لها، وإنما كان الهدف هو «التخزين»، والخوف من أسعار الغد.
ربما كان «عذر الحكومة» فى الفترة الماضية أنها لم تكن ترغب فى دخول «سجال شفوي» دون بلورة رؤية محددة للخروج من الأزمة، ومن هنا، كان إعلان الحكومة، الخميس الماضى، عن تلك المشروعات، بعد أن دخلت حيز التنفيذ الفعلى والصياغات النهائية، بما يضمن القدرة على توضيح كل التفاصيل، والإجابة عن كل الاستفسارات خلال الأيام القليلة المقبلة، بعد وضع النقاط على الحروف فى التفاصيل الدقيقة.
ما حدث فى الايام القليلة الماضية من تراجع فى سعر صرف الدولار عن مستوياته العشوائية فى السوق السوداء، وتراجع أسعار الذهب، وخسارته أرقاما كبيرة من أسعاره غير العادلة يؤكد ضرورة عودة الهدوء إلى الأسواق، والبداية من المواطن العادى بضرورة عدم إنصاته إلى الشائعات، والبُعد عن المضاربات التى لا يستفيد منها سوى حفنة من المضاربين والمحتكرين الذين أثروا بالمليارات على حساب باقى قطاعات المواطنين.
إلى جوار ذلك لابد من قيام الحكومة بما يجب أن تقوم به، للسيطرة على الأسواق، وعدم تركها نهبا للشائعات والأكاذيب، واتخاذ كل ما يلزم من الإجراءات القانونية لمطاردة المحتكرين والمضاربين، والضرب بكل قوة على أيدى هؤلاء الذين تربحوا المليارات من المضاربة على أسعار الدولار والذهب والسلع الإستراتيجية الأخرى.
المهم الآن أن تكون السيطرة على أسعار صرف الدولار، وإعادة التوازن المفقود بين سعر صرف الدولار والجنيه، هما البداية للخروج من تلك المعضلة التى تهب على الاقتصاد المصرى كل فترة نتيجة مؤامرات خارجية كما يحدث الآن، أو نتيجة مشكلات اقتصادية داخلية نتيجة الفجوة الضخمة بين الاستيراد والتصدير، والإنتاج والاستهلاك.
الأزمة الحقيقية تكمن فى الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك من جانب، وبين التصدير والاستيراد من جانب آخر، فكلما تراجع الإنتاج وزاد الاستهلاك انعكس ذلك على الفور بالسلب على زيادة الاستيراد، وتراجع الصادرات، خاصة فى ظل الزيادة السكانية الرهيبة وغير المنضبطة.
لابد أن يكون هناك إنتاج أولاً لكى نقوم بالتصدير، ومن ثم يتم تقليل الاستيراد، والعكس صحيح، فكلما زاد الاستهلاك وتراجع الإنتاج زاد الاستيراد، واتسعت الفجوة بين فاتورة الاستيراد وفاتورة التصدير، ما ينعكس سلبيا بالضرورة على أسعار صرف العملات الأجنبية، لعدم قدرتها على الوفاء بالاحتياجات المتزايدة فى فاتورة الاستيراد.
من هنا كان توجيه الرئيس عبدالفتاح السيسى، خلال حواره مع الصحفيين والإعلاميين والمسئولين فى احتفالات عيد الشرطة الماضية، بضرورة الحل الجذرى لتلك المشكلة على المدى الطويل، حتى لا تتكرر هذه المشكلة مرة أخرى بعد ذلك مستقبلاً.
ما حدث خلال السنوات العشر الماضية إنجازات ضخمة تصل إلى حد الإعجاز دون تهويل أو مبالغة، لأنها ببساطة ضاعفت حجم الثروة المصرية بعد إضافة مساحات ضخمة من الرقعة الزراعية التى تم استصلاحها أو تلك التى سوف تدخل الخدمة خلال العام الحالى، بما يصل إلى نحو 4 ملايين فدان، بالإضافة إلى إقامة العديد من المناطق الصناعية، وتنمية مصادر البترول والغاز أضعاف ما كانت عليه، والدخول إلى مجال الطاقة النووية، وكذلك إقامة 14 مدينة جديدة، من بينها 3 مدن سياحية فى العلمين والجلالة والمنصورة الجديدة، إلى جانب سلسلة الموانى والمطارات، وقبل كل ذلك وبعده ما حدث من طفرة غير مسبوقة فى مجال البنية التحتية، من طرق وصرف صحى ومياه شرب ونقل ومواصلات واتصالات، وغيرها من المجالات.
كل تلك الإنجازات تؤهل الاقتصاد المصرى لإحداث تغيير جوهرى فى إستراتيجيته، ليتحول من اقتصاد شبه ريعى إلى اقتصاد إنتاجى، والتركيز خلال الفترة المقبلة على مبدأ زيادة الإنتاج فى كل المجالات، وتوطين الصناعات فى مصر، لتكون صناعة مصرية «قولا وفعلا» بعيدا عن صناعات «التجميع» التى تكون فيها الأغلبية للمدخلات المستوردة، التى تستنزف العملات الصعبة فى استيرادها، ولا تسهم بشكل حقيقى فى زيادة موارد الصادرات.
المهم الآن البناء على ما تحقق من إنجازات ضخمة خلال الفترة الماضية، والاستفادة من تلك الفرصة الحالية فى إعادة التوازن إلى سعر صرف الدولار، وعودة الثقة والاستقرار إلى الأسواق، ليكون كل ذلك بمثابة البداية للخروج النهائى من تلك المشكلات مستقبلا إن شاء الله.
التعليقات