يقول الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني بيرتراند راسل: إن أي نظرية علمية يجب أن تقوم على معادلة رياضية تتضمن إرادة إنسانية في مقدمتها وقبل أي عنصر من العناصر، ومع أي عنصر من العناصر، وتلك المعادلة هي التي تقوم عليها حياة الإنسان في صراعه الدائم بين الخير والشر، الذي هو أعظم صراعات النفس البشرية منذ أن خلق الإنسان، لكن كيف يقرأ التاريخ تلك الصراعات؟ وكيف يحكم عليها؟ وما هي آلياته في الحكم على من واجهوا أنفسهم وانتصروا للخير رغم كونهم كانوا هم أنفسهم طرفاً في صناعة الشر.
مشهد (1)
في يناير 1950، تم اعتقال العالم الفيزيائي البريطاني من أصول ألمانية كلاوس فوكس، بتهمة التجسس لصالح الاتحاد السوفيتي، وكان فوكس ضمن العلماء المشاركين في مشروع القنبلة الذرية البريطانية، وكان أيضاً ضمن العلماء الذين يعملون في مشروع مانهاتن لصناعة القنبلة الذرية التي كانت تشترك فيها بريطانيا وأمريكا، وحكمت عليه محكمة بريطانية بالسجن لمدة 14 عاماً وجردته من جنسيته البريطانية بعد أن اعترف بنقل المعلومات نفسها للاتحاد السوفيتي، وبعد أن قضى 9 أعوام في أحد السجون البريطانية أُطلقَ سراحه في عام 1959 وعاد إلى ألمانيا الشرقية، حيث استأنف حياته المهنية كعالم فيزيائي، لكن خلال دفاعه عن نفسه في محاكمته السرية قال: إنه لم يسلم الروس سر القنبلة مقابل مال، وإنما بوازع إنساني دفعه كأحد المشاركين في صُنع القنبلة إلى التبرؤ من تلك الجريمة، وكانت رؤيته هو إعطاء السر للمعسكر الآخر حتى لا تحتكر أمريكا تلك الأداة وحدها التي تجعلها تُسيطر على العالم.
ويقال في تلك الفترة إن العالم ألبرت أينشتاين والمفكر والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر تدخلا من أجل إنقاذه تأييداً لإصراره على أنه لم ينقل تلك الأسرار من أجل المال ولكن من أجل كسر الاحتكار، وإعادة خلق ميزان للقوى في العالم من أجل حماية البشرية.
مشهد (2)
تدور أحداثه في عام 2002 وبطلته البريطانية كاثرين غان، التي كانت تعمل مترجمة في مركز الاتصالات الحكومي البريطاني، حيث لم تتحمل سماع تصريحات رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، توني بلير، عن الحرب الأمريكية - البريطانية على العراق، لتجريد النظام العراقي من أسلحة الدمار الشامل، فقررت تسريب وثيقة سرية تكشف ابتزازاً أمريكياً - بريطانياً ضد أعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لتأمين تصويتهم على قرار الحرب، وأتهمت كاثرين بالخيانة العظمى لأنها أرادت أن تحمي العالم من حروب سوف تُشارك فيها بلدها بريطانيا، وفي نهاية المطاف صدر الحكم ببراءتها لأن ممثل الادعاء لم يرغب في تقديم أدلة تُزيد من تعقيد القضية أمام الرأي العام، لكنها تحولت لبطلة شعبية غامرت بحياتها من أجل قضية إنسانية.
مشهد (3)
في ديسمبر عام 2019 وجه إلى الطبيب الصيني لي وين ليانغ اختصاصي العيون بمستشفى ووهان المركزي تهمة نشر الإشاعات، وتم تهديده من قبل الأمن العام الصيني بأنه في حال لم يتوقف عن نشر ما ادعوا أنه أكاذيب فسيتم تقديمه للمحاكمة الرسمية، لكن الطبيب لم يرضخ للتهديدات واستمر في تحذير زملائه من ذلك الفيروس الجديد "كورونا"، وفي السابع من فبراير الماضي توفي الطبيب الصيني مكتشف كورونا.
المشهد الأخير..
ثلاثة مشاهد أراد أبطالها أن يطبقوا نظرية الفيلسوف البريطاني بيرتراند راسل، والمتمثلة في أن يكون عنصر الإرادة الإنسانية في مقدمة معادلتهم الرياضية، نفس العنصر الذي أغفلته الأنظمة في الحكم عليهم في وقتها، فكانت النتيجة السجن 14 سنة على كلاوس فوكس، واتهام كاثرين غان بالخيانة العظمى، ووفاة لي وين ليانغ بكورونا واتهامه بنشر الأكاذيب والشائعات.
ربما تكون الأحكام نسبية في كل مشهد من المشاهد السابقة، وربما لا نستطيع أن نُصدر أحكاماً مطلقة تُبرئ أو تُدين أبطال المشاهد الثلاثة، من وجهات نظر مختلفة، لكن جميعها يُظللها عنوان واحد هو الإرادة الإنسانية عندما تنتصر داخلك وتوقظ ضميرك، مع اختلاف الوقائع والأحداث وكذلك الأبطال بين المشاهد الثلاثة، ولن يعفيك التاريخ من المسؤولية في معظم الأحوال، فالعالم الفيزيائي البريطاني كلاوس فوكس أكد أنه لم يتقاضَ أموالاً مقابل تسريب تلك المعلومات، وأنه أراد فقط كسر احتكار القنبلة الذرية من أجل حماية البشرية، والآن بعد مرور أكثر من نصف قرن لا يزال اسمه في قوائم الجواسيس، ولم يعفه التاريخ كونه واحداً من العلماء الذين شاركوا في صناعة القنبلة الذرية.
أما البريطانية كاثرين غان التي وُجهت لها تهمة الخيانة العظمى، والطبيب الصيني لي وين ليانغ الذي لم يصدقه أحد واتهم بنشر الأكاذيب والشائعات، ربما لا نحتاج إلى نصف قرن آخر لنرى كيف سيقرأهما التاريخ، لأن معادلتهما الرياضية لم يكن بها غير عنصر واحد فقط هو الإرادة الإنسانية، ويقظة الضمير، فأحياناً تكون الأحكام البشرية وأحكام الضمير الإنساني أكثر بقاءً وخلوداً من أحكام التاريخ.
كلمة أخيرة:
الآن في عصر كورونا نحتاج إلى تطبيق معادلة راسل الرياضية أكثر من أي وقت آخر، ونحتاج إلى أن تكون إرادتنا الإنسانية أقوى من أي عنصر آخر في معادلة حياتنا، وأن نملك قوة حقيقية لنكون أكثر شفافية، وصدقاً، وتصالحاً مع أنفسنا، بصفة خاصة لو كنا نملك ما نستطيع أن نقدمه للإنسانية في زمن كورونا، ونحن أصحاب الخيار الأخير في أن نُشارك في دمار البشرية مثلما فعل كلاوس فوكس ثم نحاول التكفير عما ارتكبناه في حق الإنسانية، وتكون النتيجة أن يُسقطنا التاريخ أو يضعنا في خانته السوداء، أو أن نكون مثل كاثرين غان أو لي وين ليانغ اللذين لم يُخطئهما التاريخ، وسيظلان رمزاً للضمير الإنساني.
محمد منير
mhmd.monier@gmail.com
التعليقات