يوســـــــــــــــف إدريس
البركان الذي أقام الدنيا ولم يقعدها حتي الآن!!
قصة الزوجة المكسيكيّة التي سبقت الزوجة المصريّة إلي قلب يوسف إدريس!!..
ما هيّ عُقْدة (البيضاء) التي لم يستطع البركان المشاغب أن يخفيها؟!..
ما هيّ (كلمة السر) التي كانت توقف البركان (محلك سر) أمام نزواته ومغامراته؟!..
كان قوي الملاحظة، يملك القدرة علي تفتيت اللحظة إلي عناصرها الأوليّة في شكل قصة قصيرة، عميقة المغزي والمضمون، تجمع بين العقل والجنون، أو في صورة مقال جريء يقيم الدنيا ولا يقعدها، أو في عمل مسرحي عبقري يحرك الساكن والراكد في حياتنا الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة..
كان كاتباً تكتبه الكلمة قبل أن يكتبها، وتنصهر مشاعره وتجاربه وخبرته في كل حرف يفرزه أو ينطق به، فهو لا يعاني من (الإزدواجية) التي قد تدفع الكاتب إلي أن يكتب عكس ما يريد أو يظهر عكس ما يبطن أو ينطق عكس ما يحس..
كان عنيدًا كذقن تمثال فرعوني، مبهر كنيزك ملون يشق آفاق السماء، شامخ لا يعرف الإنحناء إلا لله وحده، يتحمس للجديد حتي ولو لم يكن من صنعه،من السهل إضحاكه ومن الصعب إرضاءه، لا يختبيء خلف أصابعه ولا يعرف المُواربة أو المُهادنة أو قرع الطبول أو أنصاف الحلول أو رمادية الأفعال والأقوال.. حضوره يملأ الزمان والمكان.. حتي وإن غاب!!..
لحظة الرؤية بالنسبة له توازي وتساوي كُلْ الكتب والأوراق التي تغطي وجه الشمس ورؤوس العباد، يؤمن بضرورة أن تكون هناك مسافة من الشوق بين الكاتب وقلمه، وبين الكاتب وقارئه.. لا يكتب إلا إذا انفعل، ولا يصمت إلا إذا كان الصمت أبلغ وأقوي من كل الكلمات.. يتعامل مع الحياة وكأنها قصة قصيرة.. طالت قليلاً!!.. قصة أعطاها عُمْرَه فأعطته مجده وشهرته والتفاف العقول والقلوب من حوله..
تقرأ ما يكتبه وكأنك تعيشه، وتعيش ما تسمعه منه وكأنك تقرأ له.. كان شاباً متجددًا ومتحررًا في عطائه، وكان يردد لكل من حوله بأنه يكتب ليغير العالم إيماناً منه بأن الكاتب الذي لا يستطيع أن يعارض (ما يقال)من حوله ينبغي أن (يقال) من صفحات التاريخ!!..
قالها ومضي تاركاً لنا عشرات المشاعل التي أوقدها بقلمه ولم تزل تنير لنا الطريق حتي الآن!!..
نهاية الطلق وبداية الإنطلاق
ولد الدكتور (يوسف إدريس علي) في 19 مايو سنة 1927 بقرية (البيروم) بمحافظة الشرقيّة في شمال دلتا مصر، وتلقي تعليمه الإبتدائي بمدرسة (فاقوس الإبتدائية) وكان يمشي ثلاثة كيلومترات علي قدميه يومياً للذهاب إلي تلك المدرسة التي عرف فيها بتفوقه وكثرة أسئلته ومشاغباته، وفي المرحلة الثانويّة كان الأول علي مدرسته والثالث عشر علي القُطْر المصري بأكمله.. ومنذ التحاقه بكلية الطب (جامعة فؤاد الأول) كانت تشغله ثلاثة أشياء في آن واحد.. دراسة الطب والانخراط في الحركة الوطنيّة ومحاولة أن يكتشف شكلاً جديداً ومضموناً أكثر عمقاً وأطول أثرًا للقصة القصيرة، خلافاً لمن يكتبون ما أسماه بالقصة الصحفية التي تعتمد في بنائها علي (الحدوتة) والتي كان من أبرز روادها في ذلك الوقت الأساتذة: محمود تيمور وسعد مكاوي وزكريا الحجاوي، ومحمود كامل ويوسف جوهر وإبراهيم الورداني، وقد نشرت أولي قصصه القصيرة في مجلة (روز اليوسف) عام 1949 بعنوان (لعنة الجبل) والشيء الغريب أن يوسف لم يضع تلك القصة ضمن مجموعاته القصصيّة التي نُشِرت طوال حياته، لقد كانت بالنسبة له مجرد تجربة غير مكتملة.. تجربة تمثل بداية الطلق ولا تمثل بداية الإنطلاق، ولهذا أخفاها( يوسف) عامدًا متعمدًا لخجل في نفس يعقوب!!..
بعد ذلك توطدت علاقاته في كليّة الطب بمجموعة من الأصدقاء من عشاق الأدب أمثال : مصطفي محمود وصلاح حافظ ومحمد يسري أحمد وهم من الذين تميز إنتاجهم في ذلك الوقت بالرومانسيّة الحالمة بينما وقفت كتابات( يوسف إدريس)علي حافة مفترق الطرق بين الواقعيّة والرومانسيّة التي تعني باختيار الكلمة والتمحيص فيها، وقد بدأت أعماله الأدبيّة المميزة تأخذ طريقها إلي النُضْج والانتشار فكتب قصة (أنشودة الغرباء) ثم تتابعت أعماله من خلال مجلة (القصة) إلا أن هذا لم يمنعه من دراسة الطب والتفوق فيها، وأثناء ذلك شارك (إدريس) في إصدار مجلتي (طالب طب) و(الجميع) وقد صوردت الأخيرة منذ عددها الأول حيث حوكم( إدريس) بسبب مقال عنيف كتبه منتقدًا أساتذة الكلية و انتهت المحاكمة بفصله لمدة عام من الكليّة الا أنه عاد بعدها وواصل دراسته وتخرج فيها عام 1951 وكان ترتيبه ال (٣٣) علي دفعته حيث عمل كطبيب إمتياز بمستشفي قصر العيني لمدة عام، ثم عمل بقسم تراخيص المحلات العامة ببلدية القاهرة ثم كطبيب عمال النظافة بوزارة الأشغال العامة بحي بولاق ثم طبيباً بالمحافظة ــ مكتب حكيمباشي ــ ثم مفتشاً للصحة بحي (الدرب الأحمر)، وفي عام 1954 أصدر أولي مجموعاته القصصية (أرخص ليالي) فأثارت النقاد والقراء معاً، ولعل عنوان هذه المجموعة القصصية يمثل أول محاولة من( يوسف إدريس) للتمرد علي القواعد اللغويّة، حيث إنه كان من المفترض لغوياً أن يكون العنوان (أرخص ليالٍ) إلا أن يوسف صمم علي إضافة (الياء) ضاربًا بقواعد اللغة عرض الحائط وأصر علي أن يكون العنوان هو (أرخص ليالي)، وقد كانت هذه المجموعة القصصيّة بمثابة طفرة إبداعية متميزة، وغير مسبوقة في فن القصة القصيرة حيث كتب عنها الكثيرون مادحين ومبشرين بكاتب ولد عملاقاً هو د. يوسف إدريس، وهو ما دفع د. طه حسين إلي كتابة المُقدمة لمجموعته القصصية الثانيّة (جمهورية فرحات) قائلاً:
هذا كتاب ممتع أقدمه للقراء سعيدًا بتقديمه أعظم السعادة وأقواها لأن كاتبه من هؤلاء الشبان الذين تعقد عليهم الآمال وتناط بهم الأماني ليضيفوا إلي رقي مصر رُقياً، وإلي إزدهار الحياة العقلية فيها إزدهاراً ويقرأ الناس كتابه الأول (أرخص ليالي) فيرضون عنه، ويستمتعون به، ويقرأه الناقدون للآثار الأدبيّة فيعجبون له، ويعجبون به، ويشجعون صاحبه علي المضي في الإنتاج، فيمضي فيه ويظهر هذا الكتاب وأقرأه فأجد فيه من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدت في كتابه الأول..
حمم البركان وحميمية الفنان
وتتابعت أعمال الأديب المبدع الدكتور (يوسف إدريس)، فأصدر ما يزيد علي (35) كتاباً متنوعاً في مجالات القصة القصيرة والرواية والمسرحيّة والمقالات الشائكة التي قام من خلالها بشرح وتشريح قضايا أمته العربية بوجه عام وقضايا مصر بوجه خاص، ومن أبرز مجموعاته القصصيّة القصيرة :(أرخص ليالي)، (جمهور فرحات)، (قصة حب)، (أليس كذلك)، (البطل)، (حادثة شرف)، (آخر الدنيا)، (لغة الآي آي)، (النداهة)، (بيت من لحم)، (أنا سلطان قانون الوجود)، (اقتلها)، (العتب علي النظر)، ومن المسرحيات التي كتبها( يوسف إدريس) مسرحيات : (ملك القطن)، (المهزلة الأرضية)، (الفرافير)، (اللحظة الحرجة)، (المخططين)، (الجنس الثالث)، (البهلوان) ومن الدراسات النقدية (نحو مسرح عربي)، ومن رواياته : (الحرام)، (العيب)، (رجال وثيران)، (الإرادة)، (العسكري الأسود)، (البيضاء)، (نيويورك 80 وڤيينا 60) ومن سلسلة الكتب التي تضم المقالات المختلفة والمتنوعة: (اكتشاف قارة)، (جبرتي الستينيات)، (مفكرة يوسف إدريس)، (أهمية أن نتثقف يا ناس)، (إنطباعات مستفزة)، (عزف منفرد)، (فقر الفكر وفكر الفقر)، (الأب الغائب)..
الشيء المدهش أن كل عمل من هذه الأعمال كان بمثابة نقلة موضوعيّة متطورة للقصة القصيرة أو للمسرح أو للمقال الصحفي المتأدب، حيث كان( يوسف) أشبه بالبركان الذي يلقي بالحمم في كل مجال.. يلقيها بحميميّة الفنان المفكر، والأديب العبقري الذي يعيش ليكتب ولا يكتب ليعيش.. كان أشبه بالضمير المستيقظ الذي يؤرق صاحبه بصوته وسوطه وسطوته وعنفوانه، ولا يرتاح إلا بعد أن يلقي بدلوه في كل ما يهم أبناء هذا الوطن من قضايا وهموم.. وقد دفع (يوسف إدريس) ثمن هذا الدفاع المندفع، والإندفاع المدافع فذاق مرارة السجن والرفت والمنع من الكتابة، ولكنه رغم كل هذا لم يتراجع ولم يصمت حتي آخر يوم من حياته..
حُب الذات وأعظم اللذات
سُئل الدكتور (يوسف إدريس) ذات يوم:
- لماذا أصبحت كاتباً؟
فأجاب مُبتسماً:
** من الصعب عليّ أن أحدد لماذا أصبحت كاتباً؟ ، لقد حاولت أن اكتشف ذلك، فليس في عائلتنا كلها كاتب أو فنان.. وإنما أعتقد أني ولعت بالقصة المحكيّة لأن أبي كانت له قُدْرة خارقة ليس فقط علي قص الحكايات وإنما علي تحويل ما صادفه في يومه وعمله إلي نوع ساحر غريب من الحدث القصصي، يرويه لنا ونحن شغوفون تماماً لسماعه، لقد كان كل شيء عنده يستحيل إلي حدث خارق، ولو كان كل ما فعله أنه ذهب وأدي الشهادة أمام المحكمة، وأعتقد أن ذلك سببه أنه كان يمتلك رؤية فنية إنسانيّة للواقع.. هل ورثت هذه الرؤية؟ أم اكتسبت رؤية جديدة اختلطت فيها حكمة الأم برؤية الأب؟.. لا أعرف، فأنا لا أعرف ما هي رؤيتي الفنية ولا أستطيع أن أغادر مجال رؤيتي وانفصل عنه، وأري نفسي من بعيد، فأنا داخل رؤياتي وداخل نظراتي، وأعتقد أن الآخرين باستطاعتهم ذلك أفضل مني..
ويستطرد د. يوسف إدريس قائلاً:
في تقديري أن صفات أبي وأمي وأخوالي وأعمامي من مكوناتي، بل إنها أحياناً تتصارع في داخلي، وتقسم ذاتي علي نفسها.. ذلك أن أبي كان مُحباً إنسانياً كبيراً، جياشا بالعاطفة، ولكن أمي كانت تحب نفسها أكثر، وكثيراً ماتتصادم هاتان الصفتان في داخلي، وأعتقد أن الجزء الخلاق هو في قدرتي علي مد حُبي للذات إلي الناس!!..
في مجلة (الهلال) الصادرة في أغسطس عام ١٩٩١ كتب الصحفي الراحل (صلاح حافظ) مقالاً رائعاً بعنوان (يوسف وأنا.. مشاغبة أتمني أن تدوم) حاول فيه الرد علي السؤال السابق نيابة عن( يوسف إدريس) كما طلب، فحكي فيه عن السر الخفي وراء اتجاه (إدريس) إلي الأدب قائلاً:
كانت الصحافة حلم (يوسف إدريس)، وكان الأدب حلمي أنا!!..
كنا زميلين في كلية الطب، وكنت أكتب الشعر، وكان هو يكتب المقالات، ويصدر صحيفة تباع في الكلية بنصف قرش، ومع أنها كانت تنفد بمجرد الصدور فإن دخلها كان لا يغطي ثمن الحبر، فأفلس يوسف.. وأفلسنا معه!!.. ثم ظهر في حياتنا زلزال.. زميل كثيف الحاجبين، شديد الخجل، خارق المقدرة في فن القصة.. اسمه (محمد يسري أحمد)، وأسلوبه في الكتابة شلال يتدفق، وبئر بلا قاع، نسيت أنا الشعر، ونسي يوسف الصحافة، وصار همنا في الحياة أن نكتب القصة.. وكأنما كان (محمد يسري أحمد) هذا مكلفاً بأن يؤدي هذه المهمة فقط، فما كدت أتحول عن الشعر ويتحول يوسف عن الصحافة، حتي اعتبر (يسري) أن مهمته انتهت وتوقف تماماً عن الكتابة.. وبقي يوسف وأنا نعالج فن القصة، وتراودنا أحلام الصحافة بين وقت وآخر.. أما أنا.. فانتهي بي الحال إلي بلاط صاحبة الجلالة، وصار الأدب بالنسبة لي نزوات عابرة، أمارسها حين يسمح وقت الفراغ، وبعيدًا عن أعين الناس، أما يوسف فكانت عبقريته أنه قاوم إغراء الصحافة وحرارتها وحيويتها المثيرة وذاب في أحضان الأدب، وغاب في دروبه ومسالكه!!..
عاشق النجوميّة وزوج المكسيكيّة
في نفس المقال السابق أزاح الكاتب الصحفي الراحل (صلاح حافظ) الستار عن سر خطير في حياة( يوسف إدريس) وهو زواجه من امرأة مكسيكيّة قبل زواجه من السيدة (رجاء إدريس) بسنوات.. فما هيّ تفاصيل هذا السر الخطير؟.. يقول صلاح حافظ:
كان يوسف، منذ عرفته، يعشق النجوميّة.. وكان نجوم كليّة الطب، أيام كنا طالبين فيها، هم قادة الحركات السياسية، فعشق السياسة واقتحمها بحرارة واستماتة، وليكن ما يكون.. وكانت الصحافة مسرحاً آخر للنجوم، خاصة بعد أن ظهرت (أخبار اليوم) ونقلت كُتاب الصحف من فئة (الجرنالجيّة) إلي فئة وجهاء المجتمع اللآمعين، فأصدر في الكلية الصحيفة التي أفلسته وأفلستنا معه..
وكانت الحرب العالميّة الثانية تضع أوزارها وتتمخض عن حركات شعبيّة عالميّة مثل (حركة السلام) فانخرط فيها( يوسف)، وسافر لأول مرة في حياته إلي أوروبا لحضور مهرجان للسلام في( وارسو) ، وانفعل كثيراً بحماس الشباب هناك، وبلغ في الانفعال إلي حد الزواج من فتاة مكسيكيّة، كان والدها الفنان المكسيكي العالمي (ديجو ريفيرا) وعاد بها فخورًا إلي مصر، لكي نتورط ــ نحن أصدقاؤه ـ في إعادة صياغة مسكنه المتواضع، ونركب له ستائر تخفي عيوبه عن العروس الأجنبيه!!.. لكن هذا الشغف بالمجد والنجوميّة لم يسرق (يوسف إدريس) أبدًا من زواجه الشرعي بالأدب.. نعم ظل يعاشر السياسة والصحافة، ولكن كما يعاشر زوجة في الظل، بعقد عرفي، وانفصل عن زوجته المكسيكيّة عندما وجدها مصممة علي أن تأخذه معها إلي هناك، ليستمتع في ظل والدها الفنان المليونير بأقصي ما يطمح إليه من مجد وشهرة.. بعيدًا عن الأدب!!..
عُقدة البيضاء
في رواية (البيضاء) التي كتبها الدكتور (يوسف إدريس) بعضًا من قصته التي عاشها مع زوجته المكسيكية، فالأديب ـ مهما كان ــ لا يستطيع أن يتجاهل كل الأحداث التي عاشها في الواقع ليسلم نفسه للخيال كلية، ولكن الأديب ــ أيًا كان ــ يتخذ من الواقع مادة لخياله ويتخذ من الخيال وسيلة لتغيير حصيلة هذا المزج المثير الي شئ أشبه بالواقع الخيالي، أو الخيال الواقعي، فالأسماء الحقيقيّة عادة ما تستبدل بأسماء قصصية، فيوسف مثلاً يمكن أن يصبح اسمه (يحيي) فكلاهما يبدأ بحرف (الياء) وابنة (ديجو ريفيرا) التي لا نعرف لها اسمًا في الواقع، يمكن أن يصبح اسمها (سانتي) في قصة (البيضاء) واسم (سانتي) هو اختصار للاسم (أكسانتي) الذي يعني (البيضاء) باليونانية، واليونان هو البلد الذي اختاره( يوسف) ليكون بديلاً للمكسيك، وكل هذه الأسماء ما هي إلا وسيلة لإخفاء الواقع بأسمائه الحقيقية، أما تفاصيل الأحداث والوقائع فيمكن تغييرها بالحذف أو الإضافة طبقاً لقدرة كاتبها علي التحايل والتخيل الذي تفرضه عليه الفكرة التي يريد الوصول إليها بروايته، وخلاصة القضية موجزة في عبارة ــ علي رأي نزار قباني ــ أن الكاتب يستطيع تغيير الأسماء وتغيير (الأحداث) ولكنه ــ في النهاية ــ لا يستطيع إخفاء أو تغيير (الإحساس) الذي عاشه في الواقع المستتر خلف ستائر الخيال، ففي قصة (البيضاء) يقول (يحيي) عن (سانتي):
نعم كنت وأنا ماشي بجوار شوقي أحبها، وأنا أحيا تحت الأرض أراها.. وفوق الأرض أراها.. وأراها وأنا أريد أن أراها.. وأراها وأنا لا أريد أن أراها.. هي شوقي ومحفظته والمكان الذي كنا ذاهبين إليه، والمجلة وفتحي سالم وخوفي وشجاعتي، ولولا أني مدرك ومؤمن أنني سأراها اليوم ما كنت صحوت من النوم أو ذهبت للورش أو ضحكت أو حزنت أو احتملت وجودي علي ظهر الدنيا لحظة واحدة، ولجزء علي ألف من الثانية.. أحاول أن أتخيل العالم بغيرها، أو أتصور نفسي حياً من غير أن أراها، فأحس كالواقف فوق ناطحة سحاب حين يلقي بنظرة واحدة إلي الأرض، فيحس وكأنما هي التي تخلو به وتسقط من أعلي في سرعة مذهلة لتستقر علي بعد سحيق، وليصبح بينه وبينها هوة تورث الغثيان والدوار، ودوار وغثيان هما ما يحدث لي كلما حاولت أن أتصورني بغيرها أو أتصور العالم بغير أن تكون فيه وأن ألقاها، بل لا أستطيع التصور أكثر من ذلك الجزء، وكما يرتد البصر عن الأرض السحيقة أرتد أنا عن التصور، لتعود الروح تسري في، ويعود إلي العالم الجمال الذي يحببني فيه!!..
وفي نهاية الرواية يقول( يوسف) ــ عفوًا أقصد يحيي ــ بعد أن علم أن( سانتي) قد غادرت البلاد:
كانت( سانتي) قد أصبحت صورة وكلمات، وكانت أيامي المشحونة معها قد بردت وتقلصت واستكانت في زاوية من نفسي، ربما لتعود إلي الوجود بشكل آخر (يقصد عودتها إلي الورق في شكل رواية أدبية).. ولو أن أحدًا قد لوح لي أن( سانتي) ممكن أن تتحول ذات يوم إلي ذكري، مجرد ذكري لخنقته احتجاجاً وغضبًا..
ولكن أحدًا لم يقلها، حتي أنا لم أقلها لنفسي، إنما بلا قول أو ضجيج تكفل الزمن بكل شيء، وفي صمت وبلا مؤثرات، الزمن القاتل، نهاية الأشياء!!..
الشيء الغريب أن( يوسف إدريس) كان حريصًا ــ علي عكس ما عودنا ــ علي كتابة التاريخ الذي انتهي فيه من كتابة هذه القصة (صيف 1955) وإذا علمنا أن (يوسف) قد تزوج من السيدة (رجاء إدريس) في الثامن والعشرين من أغسطس عام 1957 نكون قد اكتشفنا السبب الذي دفع يوسفنا الجميل إلي كتابة التاريخ!!.. إنه دليل براءة لمن يهمها الأمر، وشهادة علي وجود عامين كفاصل زمني بين نهاية القصة الأولي وبداية القصة الثانية..
آه.. كم كنت صادقًا يا آدم القصة القصيرة حينما قلت ذات يوم بأنك لا تقول كل الحقيقة ولكنك تزعم بأن كل ما تقوله حقيقيًا!!
صراع الذكاء والموهبة
ـــ هل كان( يوسف إدريس) أذكي من( صلاح حافظ ) حينما اختار حياة الأدب ولم تستدرجه ــ مثل صلاح ــ مغريات الصحافة؟..
سؤال يطرحه (صلاح حافظ) علي نفسه ويجيب عنه قائلاً:
** لا أظن.. ولا أظن أنه اختار طريقه بوعي، أو بقرار.. إنما هو عجز عن مقاومة افتتانه بالأدب، وحاول أن يستجيب للمغريات التي تصرفه عنه ولم ينجح.. فهو ولد أديباً برغم أنفه.. وأذكر أنه كان يغيب ونبحث عنه، لكي نجده في مقهي في حي المنيرة بجوار كلية الطب، يلعب الورق مع باعة الصحف، ثم يفاجئنا بقصص ممتعة يصور فيها قاع المدينة بعيون الذين كان يلعب معهم.. وأذكر أنه كان يغيب ونبحث عنه، لكي نجده عائدًا من عزبة (باشا) إقطاعي أو من (لوري) يحمل عمال تراحيل!!..
زواج الجواد الجامح
في حوار صحفي أجرته معه الزميلة (سلوي جمجوم) روي الدكتور (يوسف إدريس) قصة زواجه من شريكة عمره قائلاً:
** لقد افتقدت المرأة في طفولتي.. كنت دائم البحث عن الحنان وأكره العنف فبالرغم من أن شكلي يوحي بالقوة إلا أنني من الداخل كنت ضعيفاً جدًا، كنت أحيا بشقتي بالمبتديان حياة عازب بوهيمي، ولم أكن أري باب الشقة التي أمام شقتي يفتح أبدًا، وفجأة وذات يوم وجدت بابي يطرق بإلحاح، فإذا بجاري الذي يقطن في تلك الشقة يطلب مني فتح بابي حتي يتمكن من إدخال مائدة طويلة، ولأول مرة يفتح البابان في وقت واحد وأري فتاة تقف في الصالة، أعجبني شكلها من أول نظرة، وكانت هذه بداية التعارف، واتضح أن جاري فنان وهاوي موسيقي يُدعي (يوسف ممتاز) وسألته عن هذه البنت الحلوة فعرفت أنها أخت زوجته، وسألني الجار إذا كنت أحب أن أتزوجها فإذا بي أنزعج من الفكرة ولكني عدت وفكرت بأنه إذا كان الزواج هو الوسيلة لكي أراها فما المانع؟.. فزرتهم كعريس ونظرت إليها من ثلاث زوايا.. نظرة من زاوية إحساسي كشاب فأعجبتني ونظرة كشابة يمكن أن أخطبها فلم تعجبني، ونظرة كمرافقة لي طوال حياتي وفي رحلة العمر فلم تعجبني.. وبدأت أتلكأ وأتحجج بأن شكلها صغير في السن مع أن سنها كانت ثمانية عشر ربيعاً وأن ذلك سيظهرني كبيراً عنها جدًا في السن وحاول جاري إقناعي بخطبتها كتجربة وفي الوقت نفسه عرفت أنها أخت زوجة إسماعيل الحبروك الكاتب فاتفقت علي أن تكون الخطبة يوم الخميس المقبل..
في تلك الليلة لم أنم من ضميري، كيف أجرب أن أخطبها وممكن أن تتعلق هي بي وهنا تصبح مأساة فكتبت خطاب اعتذار وأرسلته في يوم الخميس، وفي يوم السبت ذهبت لمقابلة (الحبروك) ولم أجده غاضباً وإنما قال لي إني رجل شريف، بعدها بأسبوعين فكرت بعمق وسعيت لمقابلة (رجاء) وهذا هو اسمها وأردت أن أعرف رأيها بصراحة وسعدت لما عرفت أنها معجبة بي وأدركت أن علاقة الإعجاب المتبادلة بيننا هي البداية الصحيحة التي ستساعدنا مستقبلاً في التغلب علي جميع المشاكل التي يمكن أن تنشأ في حياة زوجية ممتدة، وقد تحقق حدسي فيما بعد.. لقد تحملت معي الكثير وقاست وكانت نعم الزوجة، المهم أني اتخذت القرار واتصلت بالحبروك وحددنا موعد الخطبة وموعدًا آخر للزواج غير أني في يوم الخطبة فاجأت أهل رجاء بطلب كتب الكتاب بعدما وجدت أن كل أهلي موجودون وقد حضروا خصيصاً من البلد، ولما عقد القران فاجأت الموجودين مرة أخري بسحب عروسي رجاء من يدها حيث أخذتها إلي بيتي، وعلي سريري (أبو رجل مكسورة) بدأت رحلتي مع الحياة الزوجية، وأنجبنا سامح وبهاء ثم بعدها بفترة أنجبنا نسمة.
لم يكن زواجي ونجاحه وليد المصادفة فقد كنت كالجواد الجامح الذي لا يمكن أن يستأنس ولكنها بمهارتها تغلبت علي هذا وكانت كفاءتها كزوجة أكبر معين لها علي كبح جموح انفعالاتي ومن أمثلة ذلك أنني كنت لا أستطيع أن أكتب وزوجتي في المنزل فكنت أرسلها عند والدتها لمدة شهر أو شهرين حتي انتهي، وأول عمل طويل كتبته بعد الزواج رواية (الحرام) والحقيقة أنا أدين لزوجتي بالكثير فقد كان همها المحافظة علي سلامتي الشخصية فكانت دائماً تقنعني بأنها ليست شطارة أو بطولة أن يموت الإنسان وإنما البطولة في أن يستمر حياً..
ترويض النمــر
في كتاب (زوجاتهم.. وأنا) للكاتبة الصحفية (نعم الباز) تحكي السيدة (رجاء الرفاعي) الشهيرة برجاء إدريس بداية قصتها مع زوجها الراحل العظيم( يوسف إدريس) قائلة:
** كنت فتاة صغيرة مثل مئات الفتيات في بلدي.. أخذت قسطاً من التعليم بالمدارس الفرنسية والتقط من الجرائد ما أريده.. أخبار الموضة، أخبار البنات، أقرأ قصة.. ثم جاء إلينا (يوسف) صديقاً لأحد أقاربي.. وجدت نفسي مشدودة إليه.. لقد كان بالنسبة لي فارس الأحلام وكنت في قمة حلمي حينما تقدم لخطبتي فعلاً.. وتم زواجنا بسرعة وتعجب الكثيرون لهذا الزواج.. فكيف يتزوج الكاتب الذي ما زال في أول الطريق يمشي الخطي من فتاة صغيرة تمشي بحذر إلي دنيا أخري جديدة وتتلمس من يأخذ بيدها في هذا الطريق الجديد.. كان كل منا يتحسس طريقه ولم يتبينه بعد.. أما أنا فكنت أعتقد أن طريقي مفروش بالورد ومعي فارسي ذو العينان الخضراوان.. ولكن فوجئت بالأشواك وفوجئت بالظلام يلفني في كثير من فترات حياتي الأولي معه.. كان بالنسبة لي كالجبل الذي أريد أن أتسلقه لأستريح فوق القمة.. عند الجنة التي كان مفتاحها صعب العثور عليه، وكثيراً ما أطل الفشل بإصرار.. ولكني كنت أحاول أن أصل إليه.. كان متناقضاً وعجيبًا.. مرة حنوناً رقيقاً ناعماً ومرات عزوفاً بعيدًا عني.. وكنت لا أعرف متي أقترب منه ومتي ابتعد عنه.. فقد كان بالنسبة لي شخصيتين.. الأولي الطبيب مفتش الصحة الذي يخرج صباحاً لعمله ويعود ظهرًا، والثانية فنان.. أديب فيه كل ما في الفنانين من حساسية والتقاط لما حوله وكأنه مغناطيس أو كاميرا حساسة جدًا.. وكنت أنا ضحلة في معلوماتي.. قراءاتي كلها خفيفة جدًا.. وربما كان توفيق الحكيم هو الكاتب الذي شدني للقراءة ولكني لم أتخذ من القراءة رُكنًا مهماً في حياتي.. وكان لابد أن أحاول الوصول إلي منابعه.. وكان لابد أن نتقابل أو حتي نمسك بخيوطنا التي كانت تنعقد.. ومع مرور السنوات تعلمت منه الكثير ومن الكتب أيضاً أخذت بعض الطريق ومن الناس ومشاكل من حولي واهتماماتهم.. واستطعت أن أصل إليه بل وأكسبه.. وكم كنت فرحة حينما طلب رأيي ــ لأول مرة ــ في قصة من قصصه فقد أيقظني من النوم الساعة الثانية بعد منتصف الليل وقرأ لي قصته.. وأبديت رأيي فيها.. وفوجيء بي.. وفرحت لأنه أخيرًا.. وجدني آخذ مكاناً بجانبه!!..
علامات بارزة
في عام 1959 أنهي إدريس ارتباطه الوظيفي بوزارة الصحة وعين صحفياً بجريدة (الجمهورية) واحترف كتابة القصة والمقال واليوميات بها، كما سافر إلي الجزائر عام 1961 لتغطية حرب التحرير الجزائرية ثم عاوده الحنين إلي ممارسة مهنة الطب فافتتح عيادة خاصة للأمراض الباطنة ثم استبدلها بعيادة للأمراض العصبية والنفسية إلا أنه سرعان ما قام بإغلاقها مرة ثانية عام 1967 حين انتقل للعمل في وزارة الثقافة رئيساً لقسم الدراما.. وفي أبريل من نفس العام انضم إلي أسرة جريدة (الأهرام) حيث واصل الكتابة فيها حتي النهاية.. وفي عام 1964 كتب الدكتور( يوسف إدريس) مسرحيته الشهيرة والجريئة (الفرافير) مُستلهماً في ذلك إطارًا جديدًا وشكلاً مُبتكرًا للمسرح المصري المستمد من فكرة (السامر) وهو شكل بسيط يقوم علي إسقاط الحائط الرابع بين الممثل والمشاهدين، ولقد كانت هذه المسرحية ــ علي حد تعبير صلاح عبدالصبور ــ مسرحية أفكار ناضجة في بنائها المسرحي، فهي لا تعرض الأفكار عارية ناتئة العظام، ولكنها تكسو الأفكار لحماً بشرياً، وتجريها علي ألسنة البشر محدودي الأبعاد، يضحكون ويبكون ويصرخون ويسبون، وقد أثارت هذه المسرحية من حولها جدلاً ونقاشاً وإعجاباً لا ينتهي، بل لقد اعتبرها الجميع ــ بلا استثناء ــ علامة مضيئة وريادية في تاريخ المسرح العربي وقد ترجمت هذه المسرحية ومثلت بمعظم اللغات العالمية، وقد سُئِل يوسف إدريس ذات يوم: هل تعي ما تكتب؟!! فأجاب قائلاً:
من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، لأني لا أعرف لماذا أكتب؟!.. كل ما أحسه أن معاناتي كلها تتراكم قبل الكتابة.. أعاني لكي أعيش، أعاني لكي انتظر، أعاني لكي يحين الأوان، وتثبت الرؤية، وأجلس إلي المكتب.. عندئذ أحس بالمتعة الشديدة، إذ في معظم الأحيان لا أعرف ماذا بالضبط سيكون، وكيف سيتخلق الشيء من العدم؟!!..
ويلخص (صلاح حافظ) رأيه في (يوسف إدريس) قائلاً:
** كان يعيش حياة الناس بصرف النظر عن مستواهم الاجتماعي، أو الفكري، أو المادي. وكان يستمتع في كل الأحوال، وكان يفرز في النهاية الرحيق في صورة قصص ممتعة..
كان نحلة أدبية!!..
وسبقته أنا إلي احتراف الصحافة، ونشرت له أول قصة ظهرت في الصحف.. وكان يحسدني علي أنني أملك أن أنشر. وكنت أحسده علي أنه يملك أن يمارس فن القصة الذي شغلتني عنه مسئولياتي الصحفية.. لكنني لم أواصل حسدي له.. فقد كانت قصصه تؤكد لي، يوماً بعد يوم أنني أحسنت صنعاً بالتوقف عن كتابة القصة.. ووجدت نفسي سعيداً بأن يكتب ما كنت أريد أن أكتب، ولماذا أكتب وهو يسبقني إلي التعبير عما كنت أنوي أن أعبر عنه. ويسبقني إلي الصياغات والهياكل الروائية، التي كانت تراودني غامضة في خيالي، وغير محددة الملامح؟..
كان عالم القصة في مصر، قبل يوسف إدريس، ينبض بإرهاصات جديدة، ويبشر بانتقالة واسعة، وكنت واحداً من كثيرين يحاولون تحقيق هذه الانتقالية، أو الانتفاضة، ثم جاء يوسف وقفز في المياه المضطربة، وحقق ما كنا نصبو إليه فأعفانا جميعاً من هذه المهمة، وصار واجبًا أن نبتهج به، قبل أن نبتهج إليه، وعندما ينجز أديب في أوروبا مثل هذه المهمة، فإنه يوصف بالعبقرية، لكنني آخر من يستطيع أن يطلق هذا اللقب علي يوسف إدريس لأنني عايشته طوال عمري. ويصعب علي من يعايش إنساناً أن يدرك عبقريته. فهو بالنسبة لي (يوسف) فقط.. يوسف التلميذ والصديق الزميل الذي أتشاجر معه ويتشاجر معي والذي يكتب لي عندما تسجنني الحكومة، والذي أكتب مُدافعاً عنه عندما يضطهده باعة الخرافات وحملة الخناجر، ولا تملك عيناي ــ بحكم الألفة والعشرة ــ أن تري حاجزاً من العبقرية يعزلني عنه أو يعزله عني.. ولأنني أعرفه، فإنني أري وراء كل ما يكتب حقيقته التي لا يعرفها القراء. وهي أنه ولد راويًا، يحكي للناس علي راحته، ويشدهم إلي ما يقول، والراوية شخصية عريقة الجذور في التراث المصري، ولهذا يبهر يوسف إدريس الناس حين يروي، وحين يكتب قصة وحين يكتب مسرحية، فهو في كل هذه الفنون رفض الرضوخ لقواعد الدراما الكلاسيكية وفرض عليها طابع الراوية المصري الموروث وصاغ أسلوباً سيحفظه تاريخ الأدب المصري والعربي إلي آخر الزمان..
المغامر المشاغب
بين (الترويض) و(التمريض) عاشت السيدة (رجاء إدريس) حياتها مع هذا الأديب العبقري، وبذكاء الأنثي وحنانها استطاعت أن تحتويه وأن تحميه من نفسه.. كان تسامحها أكبر من أخطائه، وكان حبها له أعظم من نزواته، كانت تدرك أن طبيعة الفنان بداخله تضجر من رتابة الفعل وسكون الانفعال وانتظار التفاعل، ولهذا أعطته قسطاً كبيراً من الحرية وقسطاً أكبر من الصبر والصفح وطول البال، وقد لخصت (رجاء) سياستها مع (يوسف) في حوارها مع الكاتبة (سناء البيسي) قائلة:
كنت مُوقنة بمدي ما يحمله لي من صدق العواطف، واقعية كنت معه أعي جيدًا أنه بمغامراته يريد أن يثبت لنفسه أنه إنسان مرغوب، وأن الزواج لم يطفيء شمعته، ولا سرق منه جاذبيته، ولا أخمد فيه قوة سحر رجولته، ولأني أحبه، ولأني أنثاه، كان يعصف بي الضيق أحياناً لكن مهارتي كمنت في ابتلاع مظاهر غيرتي وانتظار إياب يوسف لأحضاني يحكي لي دقائق رحلته مع أي أخري، وبعد كل تجربة كان يحبني أكثر لاكتشافه أن المغامرة عمرها قصير، وحبنا وحده هو الأبقي والأقوي.. أبدًا لم أشعر بأخري استولت عليه أو أخذته مني أو أن أيًا من مغامراته كان دافعها أنه يملني أو أن أكون قد أسأمته.. إن يوسف ــ بحكم قسوة طفولته ــ كان متعطشاً دومًا لحب المرأة بالذات، وكانت نقطة عذاباتي معه هي كيفية سد فجوة الظمأ الكبير لديه للحنان.. كانت مهمتي الأولي إشباع جوع الطفل فيه.. ونجحت.. وأتت ابنتنا (نسمة) تعاونني في المهمة الصعبة واستطعنا معاً أن نوصل له حبنا فارتوي وبرأ من عِلته المزمنة!!
في يومياته التي كان يكتبها بعنوان (بعيدًا عن السياسة) روي(موسي صبري) عن علاقة (رجاء بيوسف) باعتباره من الأصدقاء الذين كانوا من المقربين إليهما.. فكتب يقول:
إن رجاء سيدة قوية، تحملت في شركة حياتها مع يوسف.. بفهم وصبر وحكمة، ما فوق طاقات الإنسان بكثير، كانت دائماً تردد عن إقتناع.. »يوسف قيمة أدبية كبيرة، وأنا أحمي هذه القيمة وأرعاها. إنه فنان مغامر، متطلع دائماً إلي المجهول، ويندفع إلي مآزق خطرة.. ولكنه في النهاية طيب القلب.. داخله نظيف«..
وفي كثير من الأحيان تصدت (رجاء) للرجل الذي أحبته، وتزوجته بإرادتها الكاملة، عندما كانت تري أن نزواته المخاطرة وصلت إلي حد أن أصبحت حياته مهددة.. وكان يوسف لا يتراجع بسهولة، ولكنها كانت تعرف كلمة السر، التي تجعله يتهاوي أمامها ويرفع الراية البيضاء.. ويعدل عن المغامرة المتهورة، كانت تهدده (كذبًا) بأنها لن تبقي معه!!.. تهديد كاذب.. لأنها وهبت نفسها أن تكون شريكة السراء والضراء، حُبًا وإيماناً واقتناعاً وقدرة علي التحمل.. ولكنه كان يخشي هذا التهديد، كان علي يقين أنه لا يستطيع أن يعيش بعيدًا عنها يوماً واحدًا، أو قريباً منها بهاجس أنها قد تبتعد.. أقول باختصار.. إن هذه السيدة العظيمة، حافظت علي يوسف إدريس، هذه السنوات الطويلة، التي اقترب فيها من الموت أكثر من أربع مرات.. اقتطعت الجراحة جزءًا من قلبه، وأصيب بجلطة بعدها نجا منها بأعجوبة فقد كان في قلب افريقيا ولم يستمع يوماً وهو الطبيب ــ لنصائح طبيبه حماية لصحته.. كان دائماً متمردًا حتي علي العلم!!..
رجل بين أنثتين
أنجب (يوسف إدريس) من السيدة (رجاء) ثلاثة أبناء هم: المهندس (سامح إدريس) الذي تزوج ثم إنفصل عن زوجته ،ثم شقيقه المخرج الشاب (بهاء إدريس) الذي رحل عن الدنياعام 1998، ثم (نسمة) يوسف إدريس) التي رحل والدها قبل أن يراها عروسًا تزف وأماً تهدهد طفلها الصغير (مروان)... و(نسمة) هي الوحيدة التي ورثت حب الأدب وممارسة كتابة القصص القصيرة باللغتين الانجليزية والعربية ولم يكن( يوسف ) يشجعها علي هذه الهواية لخشيته عليها من متاعب هذه المهنة الشاقة ولم يعش( يوسف) ليري طفلته العنيدة وهي تتمسك بهوايتها فتنشر لها عشرات القصص بجريدة (الأهرام ) و (نصف الدنيا) والعديد من المجلات الأجنبية، ومن شابه أباه فما ظلم.. ومن المؤكد أن (يوسف) لم يعرف الحب الحقيقي إلا لاثنتين من بنات حواء هما: زوجته(رجاء) وابنته ( نسمة) .. لقد كان يراقب تطور نمو (نسمة) وهي تتشكل وتنمو بمتعة وانبهار، فهو القائل:
أنا عرفت المرأة من (نسمة).. أول مرة أري أمامي أنثي تتخلق.. المرأة بدلالها وأنوثتها ومكرها وذكائها تنمو ويشب عودها!!..
بعد رحيل (الأب الصديق) كتبت نسمة (الابنة الصديقة) تنعي يوسفها الجميل قائلة:
كيف نكون عندما نموت؟..
بات السؤال الملح بسيطاً..
فعرفت إجابته بعد ماعشت بدونك لاحيّة ولا ميتة أو حيّة وميتة معاً..
أحس أنك حي ــ ولو أنه مجرد وهم ــ وليكن خيالاً، ولكنه الواقع الوحيد الذي أدركه.. أتوق إلي حضنك الدافئ فهلا حضنتني؟.. ضمني، حتي لا تفصلني عنك ذرة هواء، ولتخفني في صدرك كي لا أري أبداً، ذلك اليوم، يوم لاتشرق الشمس فيه حينما أتلفت فلا أراك حولي ومعي، فيتوقف الزمن وليتأجج في السماء رنين الأجراس المشئومة تنعي من تشاء.. ولتحطمني كل المخاوف والدموع والتوسلات التي لا تجاب..
لكنني أريد أن أراك..
فقد كذبوا علي حين قالوا إنك قريب، وكذبوا حين ادّعوا أنك بعيد.. فأنت في بعدك الأقرب..
سآتي بأقلامي الملونة ولعبي لألهو بجوارك..
وأنت تنام أو ترقبني مغمض العينين.. ومن يدري: فلربما تتخلق الأشكال من الكلمات وتكون.. ولكن أتتخلق البحار والأشجار والنجوم؟.. إنها مثلك انبثقت عن الكون، ومثلك لاتحدها ملامح ولا زمان فقد توحدت مع كل الموجودات والمخلوقات فأصبحت أبدياً.. انصتْ!!.. انصت!!..
إنهم يهمهمون من بعيد..
ترنيمة مصرية قديمة للمعبود الحبيب..
وأنت الحبيب..
فلتعد إليهم ولتعد إليَّ!!..
التعليقات