الأب "الخارق" والإفلاس وزلزال كثيف الحاجبين.. صلاح حافظ يفسر لماذا أصبح يوسف إدريس كاتبًا؟

سُئل الدكتور يوسف إدريس ذات يوم: لماذا أصبحت كاتباً؟ فأجاب مُبتسماً:  من الصعب عليّ أن أحدد لماذا أصبحت كاتباً؟ ، لقد حاولت أن اكتشف ذلك، فليس في عائلتنا كلها كاتب أو فنان، وإنما أعتقد أني ولعت بالقصة المحكية لأن أبي كانت له قدرة خارقة ليس فقط علي قص الحكايات وإنما علي تحويل ما صادفه في يومه وعمله إلي نوع ساحر غريب من الحدث القصصي، يرويه لنا ونحن شغوفون تماماً لسماعه، لقد كان كل شيء عنده يستحيل إلي حدث خارق، ولو كان كل ما فعله أنه ذهب وأدي الشهادة أمام المحكمة، وأعتقد أن ذلك سببه أنه كان يمتلك رؤية فنية إنسانية للواقع. هل ورثت هذه الرؤية؟ أم اكتسبت رؤية جديدة اختلطت فيها حكمة الأم برؤية الأب؟. لا أعرف، فأنا لا أعرف ما هي رؤيتي الفنية ولا أستطيع أن أغادر مجال رؤيتي وانفصل عنه، وأري نفسي من بعيد، فأنا داخل رؤياتي وداخل نظراتي، وأعتقد أن الآخرين باستطاعتهم ذلك أفضل مني.

ويستطرد د. يوسف إدريس قائلاً: في تقديري أن صفات أبي وأمي وأخوالي وأعمامي من مكوناتي، بل إنها أحيانًا تتصارع في داخلي، وتقسم ذاتي علي نفسها، ذلك أن أبي كان مُحبًا إنسانيًا كبيرًا، جياشا بالعاطفة، ولكن أمي كانت تحب نفسها أكثر، وكثيرًا ماتتصادم هاتان الصفتان في داخلي، وأعتقد أن الجزء الخلاق هو في قدرتي علي مد حُبي للذات إلى الناس!!

في مجلة "الهلال" الصادرة في أغسطس عام ١٩٩١ كتب الصحفي الراحل صلاح حافظ مقالاً رائعاً بعنوان "يوسف وأنا.. مشاغبة أتمني أن تدوم" حاول فيه الرد علي السؤال السابق نيابة عن يوسف إدريس كما طلب، فحكى فيه عن السر الخفي وراء اتجاه "إدريس" إلي الأدب قائلاً: كانت الصحافة حلم يوسف إدريس، وكان الأدب حلمي أنا!!.. كنا زميلين في كلية الطب، وكنت أكتب الشعر، وكان هو يكتب المقالات، ويصدر صحيفة تباع في الكلية بنصف قرش، ومع أنها كانت تنفد بمجرد الصدور فإن دخلها كان لا يغطي ثمن الحبر، فأفلس يوسف.. وأفلسنا معه!!.

 ثم ظهر في حياتنا زلزال.. زميل كثيف الحاجبين، شديد الخجل، خارق المقدرة في فن القصة.. اسمه محمد يسري أحمد، وأسلوبه في الكتابة شلال يتدفق، وبئر بلا قاع، نسيت أنا الشعر، ونسي يوسف الصحافة، وصار همنا في الحياة أن نكتب القصة.. وكأنما كان محمد يسري أحمد هذا مكلفاً بأن يؤدي هذه المهمة فقط، فما كدت أتحول عن الشعر ويتحول يوسف عن الصحافة، حتي اعتبر يسري أن مهمته انتهت وتوقف تماماً عن الكتابة.. وبقي يوسف وأنا نعالج فن القصة، وتراودنا أحلام الصحافة بين وقت وآخر.. أما أنا.. فانتهي بي الحال إلي بلاط صاحبة الجلالة، وصار الأدب بالنسبة لي نزوات عابرة، أمارسها حين يسمح وقت الفراغ، وبعيدًا عن أعين الناس، أما يوسف فكانت عبقريته أنه قاوم إغراء الصحافة وحرارتها وحيويتها المثيرة وذاب في أحضان الأدب، وغاب في دروبه ومسالكه!!.

التعليقات