أديب وطبيب ومتمرد .. لماذا أخفى يوسف إدريس أول قصة كتبها.. وكيف قدم طه حسين مجموعة "جمهورية فرحات"؟

ولد الدكتور "يوسف إدريس علي" في 19 مايو سنة 1927 بقرية "البيروم" بمحافظة الشرقية في شرق دلتا مصر، وتلقي تعليمه الإبتدائي بمدرسة "فاقوس الإبتدائية" وكان يمشي ثلاثة كيلومترات علي قدميه يوميًا للذهاب إلي تلك المدرسة التي عرف فيها بتفوقه وكثرة أسئلته ومشاغباته، وفي المرحلة الثانوية كان الأول علي مدرسته والثالث عشر علي القطر المصري بأكمله.

ومنذ التحاق إدريس بكلية الطب "جامعة فؤاد الأول" كانت تشغله ثلاثة أشياء في وقت واحد.. دراسة الطب والانخراط في الحركة الوطنية ومحاولة اكتشاف شكل جديد ومضمون أكثر عمقًا وأطول أثرًا للقصة القصيرة، خلافاً لمن كانوا يكتبون ما أسماه بالقصة الصحفية التي تعتمد في بنائها علي "الحدوتة" والتي كان من أبرز روادها في ذلك الوقت الأساتذة: محمود تيمور وسعد مكاوي وزكريا الحجاوي، ومحمود كامل ويوسف جوهر وإبراهيم الورداني.

إخفاء التجربة الأولى

وقد نشرت أولى قصص يوسف إدريس القصيرة في مجلة "روز اليوسف" عام 1949 بعنوان "لعنة الجبل" والشيء الغريب أن يوسف لم يضع تلك القصة ضمن مجموعاته القصصية التي نشرت طوال حياته، كانت بالنسبة له مجرد تجربة غير مكتملة.. تجربة تمثل بداية الطلق ولا تمثل بداية الإنطلاق، ولهذا أخفاها" يوسف" عامدًا متعمدًا لـ"خجل في نفس يعقوب"!.

بعد ذلك توطدت علاقاته في كلية الطب بمجموعة من الأصدقاء من عشاق الأدب أمثال : مصطفي محمود وصلاح حافظ ومحمد يسري أحمد الذين تميز إنتاجهم في ذلك الوقت بالرومانسية الحالمة بينما وقفت كتابات" يوسف إدريس"علي حافة مفترق الطرق بين الواقعية والرومانسية التي تعني اختيار الكلمة والتمحيص فيها، وبدأت أعماله الأدبية المميزة تأخذ طريقها إلي النضج والانتشار فكتب قصة "أنشودة الغرباء" ثم تتابعت أعماله من خلال مجلة "القصة" إلا أن هذا لم يمنعه من دراسة الطب والتفوق فيه، وأثناء ذلك شارك إدريس في إصدار مجلتي "طالب طب" و"الجميع" وقد صودرت الأخيرة منذ عددها الأول حيث حوكم" إدريس" بسبب مقال عنيف كتبه منتقدًا أساتذة الكلية وانتهت المحاكمة بفصله لمدة عام من الكلية إلا أنه عاد بعدها وواصل دراسته وتخرج فيها عام 1951 وكان ترتيبه الـ "٣٣" علي دفعته.

عمل يوسف كطبيب امتياز بمستشفي قصر العيني لمدة عام، ثم عمل بقسم تراخيص المحلات العامة ببلدية القاهرة ثم كطبيب عمال النظافة بوزارة الأشغال العامة بحي بولاق ثم طبيبًا بالمحافظة ــ مكتب حكيمباشي ــ ثم مفتشاً للصحة بحي "الدرب الأحمر".

التمرد من أول كتاب

وفي عام 1954 أصدر أولي مجموعاته القصصية "أرخص ليالي" فأثارت النقاد والقراء معًا، ولعل عنوان هذه المجموعة القصصية يمثل أول محاولة من" يوسف إدريس" للتمرد على القواعد اللغوية، حيث إنه كان من المفترض لغويًا أن يكون العنوان "أرخص ليالٍ" إلا أن يوسف صمم علي إضافة "الياء" ضاربًا بقواعد اللغة عرض الحائط وأصر علي أن يكون العنوان هو "أرخص ليالي"، وقد كانت هذه  المجموعة القصصية بمثابة طفرة إبداعية متميزة، وغير مسبوقة في فن القصة القصيرة حيث كتب عنها الكثيرون مادحين ومبشرين بكاتب ولد عملاقًا هو د. يوسف إدريس، وهو ما دفع د. طه حسين إلي كتابة المقدمة لمجموعته القصصية الثانية "جمهورية فرحات" قائلاً:

هذا كتاب ممتع أقدمه للقراء سعيدًا بتقديمه أعظم السعادة وأقواها لأن كاتبه من هؤلاء الشبان الذين تعقد عليهم الآمال وتناط بهم الأماني ليضيفوا إلي رقي مصر رُقياً، وإلي إزدهار الحياة العقلية فيها إزدهارًا ويقرأ الناس كتابه الأول "أرخص ليالي" فيرضون عنه، ويستمتعون به، ويقرأه الناقدون للآثار الأدبية فيعجبون له، ويعجبون به، ويشجعون صاحبه علي المضي في الإنتاج، فيمضي فيه ويظهر هذا الكتاب وأقرأه فأجد فيه من المتعة والقوة ودقة الحس ورقة الذوق وصدق الملاحظة وبراعة الأداء مثل ما وجدت في كتابه الأول.

حمم البركان وحميمية الفنان

تتابعت أعمال الأديب المبدع الدكتور "يوسف إدريس"، فأصدر ما يزيد علي "35" كتابًا متنوعًا في مجالات القصة القصيرة والرواية والمسرحية والمقالات الشائكة التي قام من خلالها بشرح وتشريح قضايا أمته العربية بوجه عام وقضايا مصر بوجه خاص، ومن أبرز مجموعاته القصصية القصيرة :"أرخص ليالي"، "جمهور فرحات"، "قصة حب"، "أليس كذلك"، "البطل"، "حادثة شرف"، "آخر الدنيا"، "لغة الآي آي"، "النداهة"، "بيت من لحم"، "أنا سلطان قانون الوجود"، "اقتلها"، "العتب علي النظر".

ومن المسرحيات التي كتبها" يوسف إدريس" مسرحيات : "ملك القطن"، "المهزلة الأرضية"، "الفرافير"، "اللحظة الحرجة"، "المخططين"، "الجنس الثالث"، "البهلوان" ومن الدراسات النقدية "نحو مسرح عربي"، ومن رواياته : "الحرام"، "العيب"، "رجال وثيران"، "الإرادة"، "العسكري الأسود"، "البيضاء"، "نيويورك ٠٨ وڤيينا ٠٦" ومن سلسلة الكتب التي تضم المقالات المختلفة والمتنوعة كتب: "اكتشاف قارة"، "جبرتي الستينيات"، "مفكرة يوسف إدريس"، "أهمية أن نتثقف يا ناس"، "إنطباعات مستفزة"، "عزف منفرد"، "فقر الفكر وفكر الفقر"، "الأب الغائب".

والشيء المدهش أن كل عمل من هذه الأعمال كان بمثابة نقلة موضوعية متطورة للقصة القصيرة أو للمسرح أو للمقال الصحفي المتأدب، حيث كان يوسف أشبه بالبركان الذي يلقي بالحمم في كل مجال، يلقيها بحميمية الفنان المفكر، والأديب العبقري الذي يعيش ليكتب ولا يكتب ليعيش.

كان إدريس أشبه بالضمير المستيقظ الذي يؤرق صاحبه بصوته وسوطه وسطوته وعنفوانه، ولا يرتاح إلا بعد أن يلقي بدلوه في كل ما يهم أبناء هذا الوطن من قضايا وهموم.. وقد دفع يوسف إدريس ثمن هذا الدفاع المندفع، والإندفاع المدافع فذاق مرارة السجن والرفت والمنع من الكتابة، ولكنه رغم كل هذا لم يتراجع ولم يصمت حتي آخر يوم من حياته.

التعليقات