وعد ترامب بعد ١٠٠ عام على بلفور.. الصهيونية تنجح ومؤسسها يرقد بسلام والعالم يغضب بالبيانات

فيما وصف بالقرار الأكثر حماقة في تاريخ الأزمة مذ بدأت قبل مائة عام، جاء قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بإعلان القدس عاصمة لإسرائيل، بخطوات متسارعة وإجراءات أشد جرأة ووطأة من المتوقع، وسط دهشة دولية- اقتصرت على بيانات التنديد والرفض - وعاصفة شعبية، ليكسر به كل الخطوط الحمراء، ويقتحم أبواب التاريخ ويدخل من أسود نقطة فيه، لينضم بعد قرن من الزمان إلى جانب نظيره آرثر جيمس بلفور، الذي أقر وعده المشئوم في العام 1917 وبمقتضاه منح أرض فلسطين لتكون لقمة سائغة لليهود، ليتحول قرار توطينه -غير المشروع- إلى واقع أشد ألمًا من ذاك الذي فرضه ويؤكد معطيات المقولة الشهيرة "من لا يملك أعطى لمن لا يستحق".

وإذا ما اعتُبر أن وعد بلفور الحلقة الأولى في بلورة وتكريس الاحتلال الصهيوني، ووضع المشروع الصهيوني في مسار يتوافق وإنشاء الدولة اليهودية, فإن وعد "ترامب" يعد نقطة الانطلاقة نحو التغيير الديموجرافي لأراضي فلسطين، بما يعكس نجاح الصهيونية العالمية في تحقيق أهدافها، ليرقد تيودور هرتزل في سلام بعد أن تحقق ما يربوا إليه بعد نحو 120 عامًا على مؤتمره التأسيسي الأول للصهيونية في العام 1897، وتتحول دماء الشهداء على أرض فلسطين إلى مياه باردة سرعان ما تجف بمرور الوقت.

بهذا الإعلان، كتب "ترامب" شهادة الوفاة للتسوية السلمية للقضية الفلسطينية التي دعت لها كثير من بلدان العالم، وتسبب في انقلاب حلفاء الولايات المتحدة التقليديين "إنجلترا وفرنسا" على التوجه الجديد الذي انتهجته واشنطن، لاسيما أنها الدولة الأولى التي تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، فلم يسبق لأي دولة أن أيدت ما أقدم عليه رئيسها، ذلك أن القانون الدولي ينظر للقدس الشرقية والضفة الغربية على أنها أراض محتلة، لاسيما في أعقاب حرب عام 1967. وقد حرصت كل دول العالم بلا استثناء على أن تكون سفاراتها في تل أبيب وليس القدس أو غيرها من المناطق المحتلة. ليأتي "ترامب" وينسف بكل القوانين والأعراف الدولية المتعارف عليها، وأقر من أمام شجرة الميلاد منح القدس بشقيها الغربي والشرقي ومقدساتها الإسلامية والمسيحية بأقصاها وقيامتها عاصمة لمن وصفها بأعظم الديمقراطيات في العالم، وسط عاصفة ستظل تبعاتها غير متوقعة.

ورغم التنديدات الدولية عربيًا وأوروبيًا بالقرار، لكنه قوبل بفرحة عارمة في إسرائيل، عكست تلك الفرحة إضاءة أسوار البلدة القديمة بألوان العلمين الإسرائيلي والأمريكي، في المقابل انطفأت أنوار المسجد الأقصى وكنيسة القيامة حدادًا، وجاءت كلمة نتنياهو المتلفزة لتعكس حال الوصاية الإسرائيلية على أبناء الديانات الأخرى التي ستفرضه في أعقاب القرار، بأن قال فيما نصه "إسرائيل ستضمن دائما حرية الدين لكل من اليهود والمسيحيين والمسلمين على حد سواء"، وبلغة فجة لرئيس الوزراء الإسرائيلي غير خلالها حقائق التاريخ رأى أن ذلك يوم تاريخي، زاعمًا أن القدس عاصمة للشعب اليهودي منذ 3 آلاف عام، وكانت عاصمة لإسرائيل منذ 70 عامًا.

وبتصعيد شديد، جاء رد الإدارة الفلسطينية شديد اللهجة بكلمة متلفزة للرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن الذي وصف هذه الإجراءات بمثابة مكافأة لإسرائيل على تنكرها للاتفاقات وتحديها للشرعية الدولية، وتشجيعًا لها على مواصلة سياسة الاحتلال والاستيطان والتطهير العرقى، وأشار إلى أن هذا القرار مستنكر ومرفوض ويشكل تقويضًا متعمدًا لجميع الجهود المبذولة من أجل تحقيق السلام، وإعلانًا بانسحاب الولايات المتحدة من ممارسة الدور الذي كانت تلعبه خلال العقود الماضية فى رعاية عملية السلام، ولم تتوقف اللهجة الفلسطينية عند هذا الحد بل قالت في بيان لها الخميس، إن أي مسئول أمريكي غير مرحب به على أرض فلسطين. 

قبل قراره هذا، دفع "ترامب" باستباق خطواته بأن أبلغ قادة العرب من "مصر وفلسطين والأردن" وكذلك إسرائيل بالخطوة المقبل عليها، ورغم التحذيرات إلا أن ذلك لم يغير من الأمر شيئًا، لتبق المعادلة الصفرية هي الواقع الذي يحدد مسار عملية السلام المعهودة ومستقبل الدولة الفلسطينية التي تتفتت يومًا بعد يوم ويؤخذ من مشروعية وجودها كل لحظة، بقرارات زائفة، ذلك أن التنديدات العربية لم تعد كافية في مواجهة الغطرسة الأمريكية- الإسرائيلية، فلطالما تنظر إسرائيل للعرب نظرة صفرية فإن ما هو قادم سيكون أشد سوءًا.

القرار الأمريكي اللامسئول، كسر كل نصوص اتفاقات أوسلو التي عقدت بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والتي حددت مصير القدس ضمن مفاوضات الحل النهائي التي تهدف للتسوية حول القضايا التي لازالت عالقة ومحل خلاف بين الجانبين، بينها وضع القدس واللاجئين وضرورة عودتهم كذلك وضع المستوطنات غير القانونية في عرف القانون الدولي، ورغم أن قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس لم يكن وليد اللحظة بل منذ أكثر من عقدين من الزمان في العام 1995 فهو قرار بقانون أقره الكونجرس الأمريكي  وقتذاك، ورفض تطبيقه كل رؤساء أمريكا المتعاقبين، إلا أن دونالد ترامب، وبقرار غير مدروس عصف بكل ما اجتنبه نظرائه السابقين، ليفتح جرحًا سينزف دون توقف، مال تكن هنالك وقفة عربية حاسمة.

تباين المواقف تجاه القضية الفلسطينية وبدت خطوات "ترامب" حتى من قبل مجيئه على رأس البيت الأبيض، وقتما كان مرشحًا تصب في صالح إرضاء اللوبي الصهيوني، بيد أن تلك الخطوة التي أقدم عليها سبقتها خطوات، جاءت في إعلانه منذ انطلاق حملته الانتخابية في الانتخابات الرئاسية، حيث أعلن نيته نقل السفارة الأمريكية للقدس تزامنًا مع انطلاق الحملة في يونيو 2015، وفي آخر مناظرة له مع خصومه الجمهوريين غير "ترامب" لهجته وأعلن حياده في قضية القدس دعمًا لعملية السلام، وفي فبراير ٢٠١٧ بعد نحو شهر من تسلمه الرئاسة أعلن إمكانية التوصل لاتفاق سلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

وبصيغة مائعة، بدا "ترامب" وكأنه يريد منح القدس هدية للإسرائيليين وذلك في أثناء مؤتمر جمعه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأعلن رفضه تصور السلام قائمًا على حل الدولتين ليترك علامات استفهام كبيرة بعد تصريحه على نحو غير مفهوم، بينما قلل من أهمية الصعوبات التي تعترض عملية السلام خلال لقائه بالرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن بعد ذلك بثلاثة أشهر، ليتخذ بعدها بأيام قرارًا يفيد بإرجاء نقل السفارة الأمريكية إلى القدس لإعطاء فرصة للسلام وهو ما لاقى قبولًا دوليًا.

في نوفمبر من العام الجاري، اتخذت إدارة "ترامب" قرارًا يفيد بعدم تجديد تصريح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية  في واشنطن وهو ما دفع باستهجان المتابعين للأزمة، فيما بدا وكأنه خطوة تصعيدية من الجانب الأمريكي تجاه فلسطين، اكتملت بقراره نقل السفارة الأمريكية للقدس وإعلانها عاصمة لإسرائيل ليصبح يوم السادس من ديسمبر لعام 2017 يومًا أسودًا في تاريخ الأمة يضيف لنكبات الأمة نكبة أشد وطأة من سابقاتها. 

بات القول أن اليهود اليوم ليسوا في حاجة لوعود، ولم تعد القرارات حبرًا على ورق، بل واقعًا مريرًا تسلب فيه الحقوق وتغض فيه الطرف عن جرائم الاحتلال الإسرائيلي، وتتحول مزاعم السلام إلى حصاد مر يتجرعه الشعب الفلسطيني من تهجير وتجويع وحصار واعتقال وقتل، لتأتي الذكرى السبعين على نكبة فلسطين حاملة علي عاتقها نكبة أكبر لطمت خلالها كل الوجوه العربية والإسلامية وما على تلك الوجوه بعد لطمتها إلا أن تحني رأسها أسفل وأسفل، لتعكس واقع أمة آن لها تستفيق وتعي أن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة.

التعليقات