«إرهاب الدولة» المسكوت عنه

«إرهاب الدولة» المسكوت عنه

د. محمد يونس

هذه الطفلة الجميلة البريئة لن تستطيع أن ترسم أحلامها كما تعودت كل صباح بعد أن فقدت يديها.. وهذه الأم لن تستطيع رؤية ابنها الذى كرست حياتها لتربيته بعد انفجار سلبها بصرها، وذلك الرجل أوقف الانفجار حياته وهو يسعى لتأمين عيش أبنائه.. هذه نماذج من آلاف من القصص الإنسانية التى انتهت نهاية مأسوية فى لحظة واحدة، لأن «إرهابيين إسلاميين» استهدفوا أناسا مدنين فى الأسواق والبيوت، كل جريمتهم أنهم يحملون أجهزة اتصالات.. الاتحاد الدولى للاتصالات يطالب بمعاقبة الدولة التى ينتمى إليها هؤلاء الإرهابيون.. شركات أجهزة الاتصالات تدعو إلى مقاطعة الدولة الراعية لهذا الإرهاب.. منظمات حقوق الإنسان تنادى باتخاذ إجراء حاسم .. خبراء: العملية الإرهابية جعلت كل شخص فى العالم لديه موبايل عرضة للقتل.. دول العالم المتحضر تطالب مجلس الأمن بمعاقبة هذه الدولة بموجب الفصل السابع.. بدء حصار اقتصادى عالمى للدولة المتسببة فى المجزرة الوحشية.. كل هذه العناوين كنت ستقرأها لو أن سلسلة الانفجارات المتزامنة لأجهزة الاتصالات اللاسلكية بلبنان، قد تمت فى إسرائيل أو بلد غربى واتهم فيها أشخاص مسلمون أو دولة عربية او إسلامية. ولكن أيا من ذلك لم يحدث لأن من قام بهذه الجرائم الإرهابية الوحشية، هى إسرائيل التى يتوافر لها غطاء أمريكى ضد أى عقاب تجاه كل جرائمها. فغالبية ردود الأفعال على تفجيرات أجهزة الاتصالات فى لبنان التى خلفت37 قتيلا وآلاف الجرحى، انحصرت فى الدعوة إلى عدم التصعيد وهو الأمر الذى تقوم به الدول الغربية الكبرى عقب كل مجزرة يقوم بها الكيان المغتصب.

ما يثير الدهشة والحيرة هذا الصمت الدولى الرهيب عن التطور النوعى فى صناعة الإرهاب والذى تم بمقتضاه تحويل أجهزة الاتصالات - التى تستخدم عادة فى قطاعات مدنية كثيرة - إلى أدوات قتل ودمار، وهو ما يعتبرا انتهاكا صريحا للمواثيق الدولية، ومن ثم فإن تفجير أجهزة الاتصالات الخاصة بآلاف الأشخاص من مختلف الأعمار يمارسون أعمالهم فى منازلهم، وفى الشوارع، وفى وظائفهم، ومراكز التسوق، بلبنان، والتى تعد الأولى من نوعها على نطاق واسع، هو أكبر ممارسة لإرهاب الدولة التى يقوم بها الكيان الصهيونى، ولكن للأسف الشديد لم يقابل ذلك بما يليق به من إدانة واستنكار دولى مفترض، بخاصة ان الهلع والخوف لم يقتصر على اللبنانيين، وإنما أصاب العالم كله حيث تساءل الملايين حول مدى إمكانية استهداف أجهزتهم المختلفة من هواتف وحاسبات محمولة، وتليفزيونات ذكية فى هجمات دامية مماثلة.

وعلى الرغم من اعتراف مسئولين غربيين بأن هذه الجريمة تعتبر عملية إرهابية، ومنهم ليون بانيتا المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سى آى إيه)، فضلا عن مطالبة فولكر تورك مفوض الأمم المتحدة السامى لحقوق الإنسان بضرورة «محاسبة» المسئولين عن التفجير، وتشديد الأمين العام للأمم المتحدة، على وجوب ألا تتحول «الأجهزة ذات الاستخدام المدنى» إلى أسلحة، ومع كل ذلك فإن غالبية المسئولين الغربيين وكذلك أجهزة الإعلام الغربية لم يصفوا هذه التفجيرات بأنها إرهابية ولم يجرؤ أحد على نعتها بالإرهاب اليهودى أو الإسرائيلى، وذلك فى إطار ازدواجية المعايير التى أصبحت قاعدة مستقرة حينما يتعلق الأمر بقضايا العالم العربى والإسلامى.

إن هذه التفجيرات واحدة من أشكال إرهاب الدولة المسكوت عنه التى يمارسها الكيان الصهيونى منذ عشرات السنين، بدءا من جرائم العصابات الصهيونية فى فلسطين قبل قيام الدولة العبرية، كمنظمات «الهاجانا»، و«إيتسل»، و«الإرجون» و«ليحى»، والمذابح التى ارتكبتها قوات الاحتلال بحق الفلسطينيين، ومرورا بقمع الاحتلال للانتفاضتين الأولى (1987-1993) والثانية (2000 - 2005)، ثم الهجمات التى يشنها المستوطنون والمتطرفون اليهود ضد المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم بالضفة الغربية والقدس برعاية الحكومة الصهيونية التى زودتهم بالأسلحة، وانتهاكات المسجد الأقصى المتواصلة، ووصولا إلى الإبادة الجماعية للفلسطينيين فى غزة وتدمير المبانى السكنية والمنشآت المدنية بما فيها المدارس والمستشفيات ومحطات المياه والكهرباء. والعقاب الجماعى للسكان وقطع كل الوسائل الضرورية للحياة، ومنع وصول المساعدات الإنسانية، وقتل الإعلاميين والأطباء وفرق الإغاثة.

اذا لم يقف العالم بقوة ضد إرهاب الدولة الصهيونية، فسوف يصبح تفخيخ أجهزة الاتصالات بداية لاختراقات قاتلة، لا تقتصر على الأجهزة الإلكترونية فقط وإنما قد تمتد إلى الأطعمة والملابس وغيرها!

التعليقات