كاد الشهر الخامس للعدوان الإسرائيلى علي غزة أن ينتصف ولايزال «السقوط المادي والأخلاقى الكبير» يواصل حلقاته، وكشف الأقنعة القبيحة للنازيين الجدد فى إسرائيل، وفضح زيف حقوق الإنسان الأمريكية، وأكاذيب الديمقراطيات الغربية، إضافة إلى فشل النظام العالمى وعجزه عن وقف المذابح الرهيبة ضد الأبرياء أو الحد من ممارسات الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطينى.
أكثر من ٢٨ ألف قتيل، وأكثر من ٦٨ ألف مصاب، هم حصيلة القتلى والمصابين فى الحرب الإسرائيلية المجنونة على قطاع غزة حتى الآن، ما جعل الرئيس الأمريكى جو بايدن، حامى حمى إسرائيل، يصرح بأن الرد الإسرائيلى على هجوم ٧ أكتوبر قد تجاوز الحد، ولكنه صمت بعد ذلك، ولم يطالب بوقف إطلاق النار أو سحب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة، ولم يذهب إلى الرئيس الفلسطينى، محمود عباس، ليضع خطة للرد على الاعتداءات الإسرائيلية الغاشمة كما فعل بعد هجوم ٧ أكتوبر حينما ذهب إلى إسرائيل مقدما لها كل الدعم والاحتياجات، لشن أقذر حرب للإبادة الجماعية فى التاريخ الإنسانى.
أيام قليلة ويهل علينا شهر رمضان المعظم، بما له من قدسية وجلال عند جموع المسلمين، لكن النازيين الجدد فى إسرائيل لا يراعون حرمات أو معتقدات، ويواصلون مسلسل التدمير والإبادة بلا هوادة، بل إنهم يضعون الخطط لتوسيع الدائرة، والهجوم على رفح، مما يهدد بتفجير شلالات دماء جديدة تنذر بمخاطر إقليمية عديدة، وتهدد بتوسيع دائرة الحرب إلى مدى غير محتمل ولا مقبول.
أعود بذاكرتى إلى الوراء، وبالتحديد فى العاشر من أكتوبر، بعد هجوم «طوفان الأقصي»، وخلال احتفالات تخريج دفعة جديدة من طلبة كلية الشرطة حينما شرح الرئيس عبدالفتاح السيسى الموقف وخطورته، ورفض بشكل قاطع وحاسم مخططات إسرائيل لتهجير الفلسطينيين، تمهيدا لتصفية القضية الفلسطينية.
كان الموقف المصرى الواضح والحاسم منذ البداية هو الذى فضح المخطط الإسرائيلى لاستغلال هجوم المقاومة الفلسطينية فى تنفيذ أكبر مخطط للإبادة والتهجير، وتحول الموقف المصرى إلى حجر عثرة تبعثرت عليه كل المخططات الإسرائيلية، الرامية إلى تنفيذ أكبر عملية لتهجير الفلسطينيين منذ نكبة ١٩٤٨، وتصفية القضية الفلسطينية إلى الأبد.
الموقف المصرى الصلب نجح فى صد المخطط الإسرائيلى، وإعادة تصحيح مسار الأزمة، والعودة إلى «جذر المشكلة»، بحسب تأكيدات الرئيس عبدالفتاح السيسى، وهو ضرورة إقامة دولة فلسطينية طبقا لمقررات الشرعية الدولية على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧، وعاصمتها القدس الشرقية.
خلال أربعة أشهر ونصف الشهر من حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين تأكد السقوط الأخلاقى والمادى الكبير للعدوان الإسرائيلى وداعميه، والصمت العالمى عليه فى العديد من المظاهر، أبرزها ما يلى:
أولا: على الرغم من انتصاف الشهر الخامس، فقد فشلت الآلة العسكرية الإسرائيلية فى تحقيق كل أهدافها المعلنة، بدءا من استعادة الأسرى أو القضاء على «حماس»، على الرغم من كل ما ارتكبته من مجازر، وحملات إبادة، وفرض لحصار قاتل وغير مسبوق فى تاريخ الحروب الإنسانية.
كل هذا يؤكد وهم الآلة العسكرية مهما تكن قوتها فى تحقيق الأمن للإسرائيليين، والتأكيد على أنه بدون السلام العادل والشامل لن يتحقق الأمن للإسرائيليين أو لشعوب المنطقة، وهو ما تنادى به مصر منذ إبرامها اتفاقية السلام مع إسرائيل، وأكده الرئيس عبدالفتاح السيسى قبل الأزمة وبعدها، وتأكيده أن السلام العادل والدائم هو وحده الكفيل بالأمن والسلام للجميع، بمن فيهم الإسرائيليون.
ثانيا: أثبتت عملية «طوفان الأقصى» فشل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية إلى جانب فشل الآلة العسكرية، وحتى الآن فقد فشلت الأجهزة الأمنية الاستخباراتية الإسرائيلية، ومعها الأجهزة الأمريكية الداعمة والمساندة لها، فى الوصول إلى أماكن الأسرى والمحتجزين، مما أدى إلى القصف العشوائى لسلاح الجو الإسرائيلى لأماكن وجود الأسرى والمحتجزين، وهو ما أسفر عن مصرع العديد منهم حتى الآن، ويهدد بوقوع المزيد من الضحايا إذا لم يتم إبرام صفقة لتبادل الأسرى والمحتجزين فورا، والبدء فى وقف إطلاق نار دائم ومستدام.
ثالثا: كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة مدى التباين فى المواقف بين الشعب الإسرائيلى والنازيين الجدد من القادة الإسرائيليين، خاصة من اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نيتانياهو رئيس الوزراء، ومعه بن غفير وسموتيريش، وبعض قادة الأحزاب الأخرى غير المشاركين فى الحكومة مثل ليبرمان.. هؤلاء وغيرهم من الإرهابيين اجتمعوا على قلب رجل واحد فى مخطط دموى يستهدف إبادة العرب جميعا من المحيط إلى الخليج، ويرفعون شعارات إرهابية مثل «الأمن مقابل السلام»، بمعنى الرضا بالعيش فى ظل بيت الطاعة الإسرائيلى، وإجراء كل ما يلزم من اتفاقيات سلام وتطبيع مجانى دون الاعتراف بالحقوق العربية فى فلسطين والجولان ولبنان، ورفض قيام دولة فلسطينية، وتنفيذ خطة تهجير قسرية وطوعية للفلسطينيين أو الرضا بالعيش كمواطنين من الدرجة الثانية داخل إسرائيل.
على الجانب الآخر، هناك فريق داخل إسرائيل يطالب بوقف الحرب، خاصة عائلات الأسرى، والمنظمات الداعية للسلام، وبات هناك تباين واضح بين الفريقين بعد أن اتضح أن هدف بنيامين نيتانياهو وفريقه من المتطرفين هو البقاء فى السلطة مهما يكن الثمن حتى لو كان ذلك هو حياة الأسرى أنفسهم دون اكتراث بمشاعر الأسر والعائلات.
لقد تجمع العديد من أفراد عائلات الأسرى، مساء الخميس الماضى، فى مظاهرة حاشدة أمام وزارة الجيش الإسرائيلى، وأغلقوا الشوارع، وطالبوا حكومة بنيامين بضرورة عقد صفقة لتبادل الأسرى، وطالبوا الحكومة بالعودة إلى مفاوضات القاهرة، والتوصل إلى اتفاق للتهدئة والتسوية والإفراج عن الأسرى، ولكن حالة الذعر التى يعيشها نيتانياهو جعلته يضع مصلحته الشخصية قبل كل شىء، ومهما يكن الثمن.
رابعا: بعد نحو أسبوع تنتهى مهلة محكمة العدل الدولية التى قدمتها إلى إسرائيل، لتقديم ما يفيد بشأن التزامها بقرارات المحكمة الاحترازية، وهو الأمر الذى خالفته إسرائيل تماما، حيث استمرت فى أعمال القتل والإبادة، وكذلك التحريض على ارتكاب أعمال الإبادة، والأخطر هو محاولة إسرائيل الآن شن هجوم على مخيم رفح للاجئين، الذى يضم ما يقرب من مليون ونصف المليون فلسطينى، الذين هربوا إلى رفح بحثا عن مكان آمن، بما يؤكد حالة السقوط الإسرائيلى، والتخبط الأعمى، واستمرار سياستها العدوانية فى الإبادة والقتل والتدمير دون رادع، وهو ما يتطلب موقفا قويا وحازما من المحكمة فى المراجعة المقررة لها بعد انتهاء مدة المهلة التى منحتها المحكمة لإسرائيل يوم ٢٦ فبراير الجارى.
خامسا: السقوط الأكبر فى هذه المجزرة كان للإدارة الأمريكية، وأحاديثها الزائفة عن حقوق الإنسان، وها هى تسقط بالضربة القاضية تحت عجلات العدوان الإسرائيلى الغاشم الذى أسهم فى أكبر عملية تهجير داخلى فى التاريخ الحديث، وأدى إلى تدمير أكثر من ٧٠٪ من مبانى قطاع غزة، بالإضافة إلى تدمير المستشفيات والمدارس ومحطات المياه والصرف الصحى، إلى جانب الأعداد الضخمة من القتلى والمصابين الذين بلغوا حتى الآن أكثر من ١٠٠ ألف قتيل ومصاب، من بينهم ٧٥٪ من الأطفال والنساء.
كل تلك الدماء لم تهز ضمير الرئيس الأمريكى جون بايدن وإدارته، بل على العكس استخدم الفيتو الأمريكى خمس مرات فى إفشال قرارات قدمتها المجموعة العربية والصين وروسيا، لوقف إطلاق النار، وفى آخر تلك القرارات كانت أمريكا وحيدة، حيث أيدت قرار وقف إطلاق النار ١٣ دولة أعضاء فى مجلس الأمن من أصل ١٥ دولة، فى حين امتنعت بريطانيا، الحليف الإستراتيجى لأمريكا، عن التصويت، ورفضت أمريكا وحدها القرار، وأسقطته من خلال استخدام حق النقض (الفيتو).
للأسف الشديد، فإن استخدام أمريكا حق النقض (الفيتو) لمصلحة إسرائيل ليس بجديد، بل إنه يأتى امتدادا لمواقف أمريكا المنحازة دائما لمصلحة إسرائيل على حساب الحقوق العربية المشروعة، حيث استخدمت أمريكا حق النقض فى مجلس الأمن نحو ٧٩ مرة، منها ٥٠ مرة لمصلحة إسرائيل وحمايتها ودعم عدوانها على مدى تاريخها العدوانى، الممتد طوال ٧٦ عاما منذ نشأتها حتى الآن.
سادسا: أكدت حرب غزة أكذوبة «النظام العالمى»، فلا يوجد ما يسمى «النظام العالمي»، وإنما هو نظام «القوة» و«الأكاذيب» و«العنصرية البغيضة»، لأنه نظام مختل، قائم على إعطاء مزايا رهيبة للدول القوية، بما فيها حق النقض «الفيتو»، وهو ما يتطلب ضرورة تعديل هذا «النظام المختل» إذا كانت هناك رغبة جادة فى وجود نظام عالمى متوازن وعادل، والمؤكد أن حدوث ذلك الآن ضرب من الخيال مادامت الهيمنة الأمريكية العالمية بوضعها الحالى.
على الجانب الآخر، فقد أكدت تلك الأزمة أهمية التعاون العربى ــ العربى، وضرورة البحث عن آليات جديدة لتفعيل النظام العربى من خلال تطوير الجامعة العربية، وتعديل مواثيقها، وتفعيل معاهدة الدفاع العربى المشترك فى إطار الحفاظ على الحقوق العربية المشتركة، والدفاع عن المقدرات العربية ضد العدوان والاعتداءات وحروب الإبادة، والتدخل فى الشئون الداخلية العربية.
ربما تكون أزمة غزة الأخيرة كاشفة للكثير من المتغيرات التى تهدد مصالح العالم العربى الإستراتيجية، وتؤكد حتمية تفعيل الحوار العربى ــ العربى أولا من أجل حماية المصالح العربية من المخططات الجهنمية للشرق الأوسط الكبير، وأفكار اليمين الإسرائيلى المتطرف حول مستقبل إسرائيل الكبرى، بما فى ذلك مستقبل العلاقات العربية ــ الأمريكية، ومدى استمرار أمريكا فى سياستها المنحازة للعدوان الإسرائيلى على حساب الحقوق العربية المشروعة، وكلها قضايا تتطلب مراجعة هادئة وموضوعية بعيدا من الانفعالات أو ردات الفعل.
التعليقات