كعادته كان الرئيس عبدالفتاح السيسى صريحا وواضحا فى الحديث عن الأزمات والمشكلات التى تواجه الدولة المصرية، وواضعا رؤية إستراتيجية للخروج من تلك الأزمات والمشكلات التى تعرضت لها الدولة المصرية منذ اندلاع ثورة 2011 أو ما قبلها سواء أكانت تلك المشكلات اقتصادية أم سياسية أم أمنية أم غيرها من المشكلات.
الحديث هذه المرة جاء عقب احتفالات وزارة الداخلية بعيد الشرطة وتركز على الأزمة الاقتصادية التى تواجهها الدولة المصرية فى الفترة الحالية بعد سلسلة من الأزمات العالمية المتصلة بدءا بجائحة كورونا، مرورا بالحرب الروسية ـ الأوكرانية وانتهاء بحرب غزة الحالية.
ميزة الرئيس عبدالفتاح السيسى فى مواجهة الأزمات أنه لايكتفى بعلاج «العرض» فقط كما كان يحدث خلال عقود طويلة سابقة من الزمان، لكنه يركز على علاج أسباب المرض ومسبباته، وكذلك أعراضه، وتداعياته، ليكون العلاج فاعلا وناجزا ويضمن عدم تكرار هذه الأزمة أو تلك مرة أخرى.
فيما يخص الأزمة الاقتصادية الحالية فإن أبرز أعراضها هى مشكلة أسعار الدولار، وانخفاض موارد العملة الصعبة، والفجوة بين ايرادات الدولة من العملات الصعبة ومصروفاتها بالإضافة إلى عوامل أخرى كثيرة مثل المضاربات، والاحتكارات.
مشكلة العملات الصعبة أو الأجنبية ليست الأولى من نوعها التى تواجه الاقتصاد المصرى لكنها مشكلة متكررة تظهر كل عدة سنوات حيث كانت قيمة الجنيه فى فترة من الفترات أعلى من الدولار، ثم بدأت تتراجع نتيجة الأزمات التى كانت تظهر كل عدة سنوات فى الخمسينيات والستينيات ثم العقود اللاحقة بعد ذلك، وذلك نتيجة الفجوة بين التصدير والاستيراد، ومشاكل التصنيع والإنتاج المحلى وعدم القدرة على مواجهة الاحتياجات المحلية مما كان يتطلب التوسع فى الاستيراد لمواجهة معدلات النمو السكانى الرهيبة التى كانت ولاتزال تقفز بأرقام مرعبة أدت إلى مضاعفة عدد السكان عدة مرات خلال الفترات السابقة فى ظل ثبات الإنتاج أو تحريكه بأقل بكثير من معدلات النمو السكانى.
يكفى أن نعرف فى هذا الإطار أن عدد سكان مصر عام 1947 كان نحو 18.9 مليون نسمة ارتفع عام 1960 إلى نحو 26.1 مليون نسمة ليقفز عام 1986 إلى نحو 48.2 مليون نسمة، ثم إلى 72.8 مليون نسمة عام 2006، وفى عام 2015 بلغ نحو 89.6 مليون نسمة، ليصل هذا العام إلى نحو 106 ملايين نسمة لتكون الزيادات السكانية فى مصر من أعلى معدلات نسب النمو السكانى على مستوى العالم.
هذا الانفجار السكانى الرهيب لم تواكبه زيادة مماثلة فى الإنتاج بمختلف مشتملاته مما نتج عنه زيادة رهيبة فى معدلات الاستهلاك صاحبها زيادة مماثلة فى الاستيراد مع عدم وجود زيادة مماثلة فى التصدير.
أدى هذا إلى خلق «خلل رهيب» ما بين احتياجات الأسواق من العملة الأجنبية لمجابهة زيادة الاستيراد، وبين ثبات إيرادات العملة الأجنبية نتيجة غياب التوازن بين الاستيراد والتصدير.
ظهرت هذه المشكلة العديد من المرات خلال العقود السابقة لأسباب مختلفة ومتعددة يصعب حصرها دفعة واحدة مما أدى إلى تراجع قيمة العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية كما يحدث الآن.
أسباب الأزمة ظلت تحت السيطرة فترة طويلة مؤخرا نتيجة المجهودات الضخمة التى بذلتها الدولة المصرية خلال العشر سنوات الماضية، وما صاحبها من إجراءات فاعلة وقوية خلال المرحلة الأولى من موجات الإصلاح الاقتصادى التى تم إطلاقها عام 2016.
للأسف الشديد جاءت رياح الأزمات العالمية «عنيفة وسريعة» و«غير متوقعة» فلم يكن يتوقع أحد هبوط جائحة كورونا عام 2020 ولم يكن يتخيل أحد إعادة الحروب العالمية مرة أخرى باندلاع الحرب الروسية ـ الاوكرانية بعد جائحة كورونا بعامين وبالتحديد فى فبراير عام 2022 من انقسام العالم إلى معسكرين متناقضين وعودة الحرب الباردة، واشتعال الحروب الاقتصادية التى صاحبت تلك الحرب اللعينة وامتداد تأثيراتها على معدلات التضخم العالمى، وتراجع معدلات النمو الاقتصادى وهروب رءوس الأموال إلى الاقتصادات الأقوى والأكثر أمانا وكلها تداعيات كان لها تأثيرات سلبية كبرى على الاقتصادات العالمية، ومنها الاقتصاد المصرى بالطبع.
بعد ذلك اندلعت حرب غزة وكانت ولا تزال مصر من أكثر الدول تضررا من تلك الحرب خاصة فيما يتعلق بتراجع أعداد السائحين أو تراجع إيرادات قناة السويس بعد تهديدات الملاحة فى البحر الأحمر والخليج العربى، وازدياد الوضع تعقيدا بعد دخول القوات الأمريكية فى مواجهة مباشرة مع الحوثيين لتزداد المخاوف والتهديدات، وتزداد معها الأزمة الملاحية تعقيدا فى قناة السويس.
فى حديث المكاشفة أشار الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى أن تكرار أزمات العملة الصعبة تقتضى ضرورة وضع الحلول النهائية لتلك الأزمة بعيدا عن المسكنات أو الاكتفاء بمعالجة الأعراض فقط حتى لا تتكرر تلك المشكلة مرة أخرى خلال السنوات المقبلة، نتيجة العوامل والظروف المختلفة سواء أكانت عوامل داخلية مثل تلك المتعلقة بالفجوة بين التصدير والاستيراد أو عوامل خارجية كما حدث فى أزمات كورونا والحرب الروسية ـ الأوكرانية وحرب غزة.
ربما لم تكن أزمة الدولار متوقعة كما أشار الرئيس لأن ما حدث خلال الفترة الماضية كان علاجا ناجعا لأزمات كثيرة كانت مستعصية، وكان من الضرورى علاجها بشكل جذرى ونهائى ضاربا النموذج بما حدث فى ملف الزراعة واستصلاح الأراضى والتى من المستهدف أن تصل المساحة المستصلحة بنهاية هذا العام إلى ٤ ملايين فدان بما يقدر بنحو ٦٠٪ من إجمالى الأراضى المستزرعة طوال قرون عديدة سابقة من أجل إنهاء الفجوة بين الاستيراد والتصدير فى مجال الأمن الغذائى وتوفير السلع الإستراتيجية الغذائية خلال الأعوام القادمة بشكل عملى بعيدا عن المسكنات.
ما حدث فى قطاع الزراعة واستصلاح الأراضى نموذج عملى للأولويات وصورة طبق الأصل لما حدث فى باقى قطاعات الدولة المصرية سواء فيما يتعلق بالإنتاج أو ما يتعلق بخدمات الكهرباء والنقل، وكذلك مشروعات البنية التحتية لحل تلك المشكلات من جذورها.
أيضا كان العلاج حاسما فى إعادة بناء البنية الأمنية وضمان عدم تكرار أزمات اقتحامات المراكز والأقسام والسجون، وهو ما تكلف مبالغ كبيرة مثل باقى قطاعات الدولة المصرية.
كان الهدف الرئيسى هو ضمان عدم تكرار الأزمات السابقة، وعلاج الخلل من جذوره لنضمن الوقاية الكاملة، وليس مجرد علاج الأعراض والتداعيات كما كان يحدث قبل ذلك.
الرئيس كشف عن أن الأزمة الاقتصادية الحالية لن يطول أمدها، وأنها فى الطريق إلى الحل بشكل نهائى على غرار ما حدث فى الأزمات الأخرى وأنه ربما تكون الميزة الاساسية لتلك الأزمة، أنها فرضت ضرورة الحل العاجل، والمواجهة الشاملة لكل أسبابها، وأهمية علاج جذور تلك الأزمة بكل مشتملاتها مقدراً «صلابة» الشعب المصرى و«نضجه» وقدرته على تخطى تلك الأزمة طالما تسلح بالقوة، والصلابة، والرشد والالتفاف صفاً واحداً حول المصلحة العامة، والرغبة الصادقة فى تخطى تلك الأزمة.
أوضح الرئيس أنه «يرفض» الحلول السهلة التى تكون تأثيراتها «وقتية» ثم تعاود الأزمة الظهور من جديد، كما أنه يرفض الحلول التى لا تضع مصلحة المواطن البسيط ضمن أهدافها وأولوياتها، بحيث لا تتزايد أعداد البطالة مرة أخرى أو يفقد العاملون وظائفهم، ودخولهم الأساسية، لكنه فى المقابل يساند بكل قوة الحلول الجذرية التى تستهدف العلاج الحاسم والنهائى لتلك الأزمة.
من الواضح أن الاقتصاد المصرى سوف يشهد تغييراً هيكليا فى الفترة المقبلة تستهدف تحويله إلى اقتصاد إنتاجى قوى للاستفادة مما تم إنجازه خلال الفترة الماضية، خاصة فيما يتعلق بمضاعفة نسبة المعمور فى مصر من 7٪ إلى 14٪ وما يتعلق بذلك من زيادة ضخمة فى مساحات الأراضى المستصلحة، وتوفير الأراضى الصناعية، بهدف تحويل الاقتصاد المصرى من اقتصاد شبه ريعى إلى اقتصاد إنتاجى وتقليل الفجوة بين الاستيراد والتصدير، وإنهاء الضغط الدائم والمتكرر على موارد النقد الأجنبى من أجل أن يستعيد الجنيه المصرى قوته مرة أخرى بعد سلسلة طويلة وممتدة من الانخفاضات على مدى أكثر من ٧ عقود متتالية حتى الآن.
لا بديل عن تقليل الفجوة بين الاستيراد والتصدير من خلال وضع خريطة متكاملة للقطاعات الأولى بالتصنيع فى المرحلة المقبلة والتى من خلالها يتم توفير المنتجات المحلية المصنوعة فى مصر كبديل عن المنتجات المستوردة، فلانزال حتى الآن نستورد «الاستيكة» والأقلام الجافه والرصاص والكبريت ولعب الأطفال، أما قطاع آخر مثل قطاع االسيارات فإنه يستنزف نحو 4٫5 مليار دولار، والموبايلات حوالى 1٫5 مليار دولار مما يؤدى إلى استنزاف الموارد المصرية لصالح كل ماهو أجنبى.
خبرتنا مع الرئيس عبدالفتاح السيسى أكدت جديته فى مواجهة المشكلات وعلاج الأزمات من جذورها فى مختلف المجالات وحديثه يوم الأربعاء الماضى بعد احتفالات عيد الشرطة يؤكد إصراره على سرعة مواجهة أزمة الدولار والعملات الأجنبية وعلاج تلك الأزمة من جذورها خلال المرحلة المقبلة علاجا حاسما ونهائيا ينهى أزمات المضاربين وتلاعب المحتكرين وعودة الاستقرار إلى الأسواق فى أسرع وقت ممكن فى إطار رؤية شاملة لتغيير طبيعة الاقتصاد المصرى إلى اقتصاد إنتاجى للحد من الفجوة بين الاستيراد والتصدير بعيدا عن المسكنات وتكرار الأزمات.
التعليقات