مبقاش ينفع خلاص

مبقاش ينفع خلاص

محمد منير

كنت أستيقظ يومياً مبكراً، خلال المرحلة الثانوية، وكنت أراه دائماً وأنا في طريقي لصلاة الفجر في المسجد المجاور للبيت، ملامحه مصرية أصيلة، يرتدي "البدلة الكاكي" زي الجيش المصري، ويحمل حقيبة صغيرة، مبتسماً، مبتهجاً، بشوشاً، مُقبلاً على الحياة، خطواته واثقة، قوية، ثابتة، كان "ناصر" الشقيق الأكبر لسالم زميل الدراسة، وكنت التقيه من وقت لآخر خلال زياراتي لشقيقه، فكان أحياناً ما يأتي ويجلس معنا، وفي أحد الأيام سألته، "أخبار الجيش إيه؟" فرد عليّ بكلام لن أنساه أبداً: "يمكن في الأول الدنيا بتبقى صعبة شوية، لكن بعد أيام في الجيش بتشعر إن جذورك اتزرعت في المكان إللي أنت بتخدم فيه، ومفيش مخلوق في الكون يقدر يقلعك من مكانك".

وقتها سألت نفسي إذا كانت هذه هي عقيدة "ناصر" الذي يقضي فترة تجنيده لمدة سنة واحدة فقط، فكيف تكون عقيدة الضابط الذي يقضي حياته كاملة، وإلى أي مدى تمتد جذوره في هذه الأرض؟

لم يكن ناصر فقط مَنْ يرتدي البدلة "الكاكي" في شارعنا، فكل شارع في مصر يسكنه ناصر وعلي وبيتر ومايكل وجميعهم يرتدي البدلة "الكاكي" نفسها.

نجحت السينما عبر أفلام محدودة في رصد بطولات الجيش المصري خلال حرب أكتوبر، اعتمدت فيها على قصص واقعية، لكن على مستوى الدراما التليفزيونية هذة هي المرة الأولى التي نعيش ونتعايش مع الحياة الحقيقية للأبطال من الجنود والضباط الذين يقفون هناك لحمايتنا.

للمرة الأولى وعلى مدار 30 حلقة، نجح أبطال مسلسل "الاختيار" في أن يجعلونا نتفاعل معهم ونشعر وكأننا كتفاً إلى كتف إلى جانبهم نشاركهم المعركة نفسها، نحارب معهم العدو ذاته، نشعر بطعم ومرارة جروحهم، نرى عدونا بأعينهم، نودع أحبتنا بمشاعرهم، نبكي أبناءنا بدموعهم، نحزن على فراق أصدقائنا في المعركة بقلوبهم، نثأر من الخونة بسلاحهم، حالة لا تتكرر من التضامن والانصهار والترابط والارتباط والتكاتف والتآزر حدثت بيننا وبين هؤلاء الأبطال، فكل واحد فينا رأى بينهم الأخ والصديق وابن العم والخال، لأن جميعهم يشبهوننا، جميعهم عاشوا معنا وعشنا معهم، ورغم قربهم أنا أثق أن كل واحد فينا سأل نفسه هذا السؤال هل نحن حقاً كنا نعرفهم؟ كنا ندرك تلك الحياة التي يعيشونها؟ كنا قريبين منهم؟ كنا نشعر بحجم تضحياتهم؟، أسئلة كثيرة نعرف إجابتها جيداً لكن ربما لم نسألها لأنفسنا من قبل.

الجندي المصري الذي شاهدناه يدافع عن أرض سيناء بدمائه، هو الجندي نفسه الذي أعادها في حرب أكتوبر، ولم تتبدل عزيمته ووطنيته، يملك نفس القوة والشجاعة والبسالة والوطنية والإخلاص والوفاء، وهو نفس الجندي المصري ابن الفلاح والمهندس والطبيب والمُعلم، جميعهم أبناء نفس الأرض.

لقد نجح الفنان أمير كرارة في أن يجعلنا نعيش حياة البطل أحمد منسي، بكل تفاصيلها ومشاعرها وشجونها وأحاسيسها وخُلقها وشجاعتها وقوتها وجرأتها ووطنيتها وإنسانيتها، بعبقرية فنان عاش الشخصية بكل تفاصيلها، فنان لم يكن يمثل، بل نجح وبذكاء شديد في أن يُسيطر على نفسه في مشاهد الاشتباك مع التكفيريين التي كانت تحتمل أن يستعرض قوتة كفنان بالصوت والحركة ليقول أنا أمير كرارة، لكنه اختار أن ينتصر للشخصية الحقيقية، وظل مرتدياً شخصية البطل أحمد منسي حتى لحظة استشهادة، تلك اللحظة التي أبكتنا جميعاً ليس فقط على الشهيد أحمد منسي، ولكن على كل الأبطال والشهداء الذين ضحوا بحياتهم من أجلنا، أداء مختلف على الدراما المصرية، وقد نجح أيضاً المخرج بيتر ميمي في أن يُعطي أبطال موقعة البرث حقهم عبر تسليط الضوء على أدوارهم البطولية في المعركة، وفي كل المعارك التي سبقتها.

على الجانب الآخر نجح المسلسل في كشف هذا الوجه القبيح للتكفيريين، هذا القُبح الذي جعل كراهيتنا لهم تصل للفنانيين الذين جسدوا أدوارهم، وهذا بالطبع ليس ضد الفنان بل يُحسب له نجاحه في نقل هذا القُبح لنا، وفي مقدمتهم الفنان أحمد العوضي الذي قدم شخصية التكفيري هشام عشماوي، وجعلنا نرى حجم الكراهية التي تملأ قلوبهم لكل إنسان خارج دائرتهم، وإلى أي مدى يُسيطر الفكر التكفيري على عقولهم لدرجة تجعلهم أشبه بالدُمى التي يُحركها قائدهم كيفما يشاء وأينما يشاء، بعد إعادة تشكيل عقله، استناداً على نقاط ضعفه، وانتزاع فطرته ومشاعره الإنسانية تجاه كل من حوله حتى أسرته، وفيما يتعلق بالدين فالتكفيري هو الأكثر جهلاً بالدين الإسلامي، ولو تم اختبارهم في أبسط قواعد الدين الإسلامي فسوف يرسبون.

وهؤلاء جميعاً في اللحظة الحاسمة سيرددون الكلمات الثلاث نفسها التي قالها التكفيري الخائن هشام عشماوي قبل تنفيذ الحكم بإعدامه، "مبقاش ينفع خلاص"، قالها وهو في أقرب نقطة من الموت، كلمات تُعبر عن حالة الندم الذي جاء في غير موعده، بعد فوات الآوان، ندم على مصير ربما توقعه وعاش في الجحور تحت الأرض هارباً منه، لكنه لم يكن يُدرك أنه قريب إلى هذا الحد، ولم يكن يتوقع أن هناك محطة أخرى سوف تسبق لقاءه بالحور العين كما أوهموه، بعد أن محو عقله بوهم الجهاد الزائف.

عقب عرض حلقة استشهاد البطل أحمد منسي، تداول نشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي، فيديو لطفل يبكي بكاءً شديداً ويتوعد التكفيريين أنه سيصبح ضابطاً وينتقم منهم.

شكراً فريق عمل مسلسل "الاختيار"، الرسالة وصلت.

كلمة أخيرة:

الإرهاب الحقيقي هو إرهاب العقل والفكر، هناك أعمال فنية نجحت في تغيير قوانين، مثلما نجحت غيرها في تدمير مجتمعات.

محمد منير

mhmd.monier@gmail.com

التعليقات