عندما تتكلم الأرض

عندما تتكلم الأرض

سعد وليد بريدي

يمتلك الإنسان القدرة العظيمة على إحداث التغير، وهذا المصطلح يشمل كل شئ تقريبًا يكون فيه للإنسان المقدرة على إحلالِ شيئ مكان الآخر أو استبدال نمط رتيب بنمطٍ بديلٍ عنه، فقد يحول الصحراء القافرة شديدة الجفاف لمدينة حديثة تضم أشجاراً خضِرةَ الأفنان.

كما يستطيع تحويل الأرض القطبية قارسة البرودة لمكان مهيأ للحياة، كذلك يستطيع الإنسان استبدال خواص المادة فيحولها مثلاً من عنصرٍ خامد إلى مادة نشطة فعالة وذلك ما فعله حينما شطر النواة لتتولد القوة النووية، كما  استطاع التلاعب بعناصر المواد الأولية  فألان ما هو صلب وأسال ماهو غاز وبخر ماهو سائل، حتى الشيفرة الوراثية للنسيج الحيواني و النباتي استطاع أن يفك رموزها و يتلاعب بتراكيبها كما يحلو له، فإستنسخ ما طاب له من النبات والحيوان ودمج ما شاء منهما.

لا ! بل فكر بما هو أبعد من ذلك واستطاع إليهِ سبيلاً بإمكانك اليوم أن تختار أبنائك المستقبليين وألوان شعورهم وقزحيةَ أعينهم وجنسهم أيضاً ذكوراً كانوا أم إناث.

واستطاع الإنسان التواصل  مع الكون القريب المحيط به فأطلق رحلاته الإستكشافية لتجول المجموعة الشمسية وتصل لآخر كويكبٍ فيها (بلوتو)، وذهب به غروره بأن صار يحاول التواصل مع مخلوقات فضائية لربما تجاورنا الكوكب.    لنكن خياليين قليلاً و نفترض بأن شخصاً ما سافر إلينا عبر الزمن و أتى من زمنٍ ليس ببعيد أي أنه كان يعيش قبل مئتي عام أو أقل، ليرى ويشاهد بأم عينهِ ما وصلت إليه البشرية من تغيرات فحتما سيصاب بالذهول الشديد، فلو أغلظتَ له الأيمان بأن العلماء أنزلو مسباراً لكوكب المريخ أو أن الإطباء أجرو عملية جراحية معقدة عبر ثقب صغير فلن يصدق أيماننا هذه بل سينعتنا بالمجانين....

ما أريد قوله هو أن الإنسان قادر على إحداث التغيرات الجذرية والجوهرية بكل شيء تقريباً إن سنحت له الفرص وتوفرت له الإمكانات، ولكن شيئاً واحداً يحال عليهِ تغييره ألا وهو التغيير الديموغرافي ...... نعم قد ينجح بخلط أوراق الديموغرافيا و بعثرتها لكنهُ سيقفُ عاجزاً عن إعلان انتصارهِ التام على ذلك  كما أعلن انتصارهُ سابقاً بالقضاءِ على مرض جدري البقر  وإزالتهِ من البشرية .....

التلاعب بالديموغرافيا هو شيئ مستحيل تماماً لأن إرتباط الإنسان بالأرض هو إرتباط قديم عتيق ضارب بعمق التاريخ، وسيكون كذلك لأجيال قادمة وبعيدة، فقد ينجح بتشتيت أفرادِ مكانٍ ما لكنهُ سيفشل إن حاول  منعَ الجد الطاعن بالسن الـمُتكئ على عكازة وقد تحلق حوله الجيل الثاني من نسله وهو يحدثهم عن موطنهم الأول ويصف لهم بصوتٍ شجي حزين ماءَ هذا الوطن وهوائهُ ومروجهُ وصحاريه.......

الإنسان مرتبط بالأرض التي نشأ أسلافهُ عليها ومتيمٌ بعليل أنسامها وذائبٌ بغبار ترابها ، لذلك سيبقى معلقٌ بها كما يتعلقُ الطفل الصغير بذيل فستان أمهُ حينما يتبعها لأن الأم هي المعنى المتكامل للأمان النفسي والجسدي، كذلك الأرض هي الأمان الحتمي والطبيعي له......

لقد مضى على الهجرة القسرية للإنسان الإفريقي الأسود نحو القارة الأمريكية زهاء الأربعمائة عام ونيف وقد جاء من أصلابِ هؤلاء المهاجرين عشرات الأجيال ورغم ذلك تجدهم بلا شعور حينما يسمعون لحناً إفريقياً يتراقصون معهُ طرباً.

ويطلقون ضحكاتهم العميقة والسعيدة وهم يجملون بكلامهم أوصافَ الشوقِ  لقارتهم القديمة ويقولون بكل فخر نحن أفارقة حتى لو غيرت القارة الأمريكية لغتنا وطباعنا وعاداتنا لكنها لم تغير اسمرار بشرتنا وحبنا لموطن أجدادنا القديم .....

أذكر تماماً بعام ٢٠٠٠ وأثناء متابعتي لحفل إفتتاح أولومبياد سيدني بأستراليا، حيث كانت وفود الدول المشاركة تتوافد لأرضية الملعب، وحينما دخلت البعثة الرياضية لدولة ويلز قام الملعلب ولم يقعد على أصوات تحية الجماهير لهذا الوفد المتواضع والقليل، حيث ضاها هذا الترحاب من الجماهير ترحابهم بالوفد الأسترالي نفسه حينما وفد لأرضية الملعب، بكل بساطة لأن أوائل المهاجرين لأستراليا كانوا من ويلز وذلك قبل ٤٠٠ عام تقريبا فلم تنسى تلك الأجيال التي تلت الجيل المهاجر أصولها بل ازدادت حباً وتعلقاً ببلدها الأم.

كذلك جحافل المهاجرين من سوريا الكبرى ( سوريا، فلسطين، لبنان) والذين هاجروا نحو أمريكا الجنوبية بأوائل القرن الماضي، كونوا مجتمعات بالبرازيل والأرجنتين وسورينام وكولومبيا وفنزويلا وتشيلي لكنهم لم ينسوا البتة حنينهم الشديد لبلدانهم ، حتى أنهم كونوا أدباً عظيماً يضاف لعصور وآداب الشعر العربي وهو أدب المهجر والذي يتميز بكمية الشوق  والحنين المسكوبة بين أبياتِ الشعر نحو الوطن القديم البعيدِ خلف المحيطات والجبال.

إن الحنين والشوق لبلاد الأجداد شيءٌ مذاب بالدم، يسبح بخلاياه، ويختال مشياً في كرياتهِ الحمراء والبيضاء، لم تنجح بالتاريخ أي محاولة لطمس الديموغرافيا، حتى ستالين حينما قام بتهجير الكثير من سكان بعض الأقاليم السوفيتيه نحو سيبيريا المرعبة لم ينجح بطمس عاداتهم وحنينهم لموطنهم، ولم يلبث أولاد هؤلاء المبعدين إلا أن رجعوا لموطنهم الأصلي فيما بعد، حتى الجالية الأرمنية التي أرغمتها الحرب على النزوحِ  نحو مصر وسوريا ولبنان ورغم مرور زمنٍ على هذه الهجرة  إلا أنهم لا يزالون هائمون متيمون بأرمينيا غير ناسين إنتمائهم لوطنهم عبر أغانيهم وطعامهم وغزلِ شعرائهم، وقد جاء الزمن الذي عاد فيهِ الكثيرون منهم بعد أن زالت أسباب الخوف ....

لذلك على الإنسان أياً ما كان سواءً أكانَ ديكاتوراً أو فيلسوفاً أو عالماً أو مؤرخاً أو شاعراً أو سفاحاً عليه أن يُهدئ من روعهِ ويُبرد أعصابه، فلن يستطيع أن يزيل إرتباط الإنسان بموطنه مهما حاول، فحينما يولدُ الإنسان يقوم الطبيب بقطع الحبل السري الذي يربط  الجنين بأمه كي يعيش ولكن إذا قطعت حبل الإنسان السري المتصل بأرضه فإنه يموت، لذلك لم ولن تنجح أي عملية إستئصال لأننا كما نحب الوطن هو يحبنا كذلك، فلن تثمر الأرض وتطيب ثمارها إلا إذا تأكدت بأن من يحرثها و يفلحها هو فلاحها الحقيقي الذي إعتادت على وطئةِ أقدام أجداده و تأكدت بأن قطرة العرق التي تساقط عليها من جبين هذا الفلاح هي ذاتها التي أسقطها أجدادهُ فوق أديم طينها ، فنحن الأرض والأرض نحن إلى أبد الآبدين. 

التعليقات