من "الدينار الذهبي" إلى تحريم "الجبن الرومى".. أشهر المقاطعات الاقتصادية فى التاريخ الإسلامي

"المقاطعة الاقتصادية ".. سلاح مالي تفرضه الدول إجبارا أو طواعية لوقف المعاملات أو الخدمات التجارية؛ بهدف إلحاق الأضرار بدول أخرى من أجل إثناءها عن بعض ممارساتها السياسية والعسكرية .

تعلق "سيف المقاطعة الاقتصادية" منذ القدم في أجساد دول وشعوب، ومارست "مقصلة الأموال" الضغوط لتغيير المواقف، ولا يمكن على وجه الدقة تحديد تاريخ أول مقاطعة اقتصادية في العالم، لكن قصص الكتب السماوية فاضت بصور الضغوط التي كان يفرضها الوثنيون على الأنبياء ومن آمن بهم، ولعل أشهر تلك المقاطعات، كانت القطيعة التجارية والاجتماعية التي فرضتها قريش على الرسول  صلى الله عليه وسلم وحصاره في شعب أبى طالب، وتحرير صحيفة للمقاطعة عُلقت في جوف الكعبة؛ وذلك من أجل وأد الدعوة الإسلامية. 

غير أن "المقاطعة الاقتصادية" قد فرضت نفسها بقوة في التاريخ الإسلامي منذ عصر الفاروق عمر - رضي الله عنه- حيث تذكر المصادر التاريخية أنه أول من أصدر العملات العربية، بهدف تحرير الاقتصاد الإسلامي من الهيمنة البيزنطية، ثم تبعه الخليفة معاوية بن أبى سفيان في إصدارها أيضا، لكن كم النقد الإسلامي آنذاك لم يكن ليجارى العملة الرومية في غزو الأسواق.

   وخلال عصر الدولة الأموية، وبالتحديد في عد الخليفة عبد الملك بن مروان"65–85هـ"، بدأت الدولة الإسلامية التعافي من أثار الفتن والاضطرابات، فكر الخليفة الأموي في إلغاء هذه التبعية، ومقاطعة الدينار الذهبي الرومي دون رجعة. 

اتفقت هذه الغاية الاقتصادية مع أخرى دينية، حين أعلن الخليفة الإمبراطور البيزنطي نيته نقش عبارات تُسئ للرسول على الدنانير التي يستخدمها المسلمون، هنا أمر عبد الملك بن مروان بأن تُضرب الدنانير باللغة العربية، وحظر استعمال النقود البيزنطية. 

وبهذه المقاطعة النقدية، بات يُنظر لعصر عبد الملك بن مروان باعتباره فترة إصلاح نقديّ بارزةٍ في تاريخ الإسلام، نجحت في تطوير اقتصاد الدولة الأموية وتنميته على الأصعدة المختلفة، ودعم استقلاليتها عن الدول المجاورة وتقوية سيادتها. 

مقاطعة اقتصادية إسلامية أخرى ضد الصليبيين، امتزجت طرافتها بين الفتوى الدينية والحرب والتجارة، إذ ارتبطت بمشروعية شراء المسلمين لـ "الجبن الرومي" في أعقاب نشوب الحروب الصليبية على الشرق الإسلامي.

صدرت هذه الفتوى من الإمام المالكي أبو بكر محمد بن الوليد الطرطوشى، الأندلسي الأصل، ونزيل الإسكندرية "عاصمة الثغر المصرية" (450 – 525هـ)؛ ولفهم طبيعة هذه الفتوى، لابد وأن نربطها مع حياة هذا الإمام الزاهد، ومعاناته من هجمات الروم والصليبيين، ما جعله يرفع ضدهم "سلاح الفقه" من أجل هزيمتهم اقتصاديا وسياسيا .

  

لقد ولد الطُرطوشى في قرية"طرطوشة" أقصى شمال الأندلس "إسبانيا الحالية"، وتلقى العلم على يد شيوخ الأندلس، وفى القلب منهم أبو الوليد الباجى، وخلال وجوده هناك شهد سقوط العديد من المدن العربية الأندلسية على يد النصارى الإستان، ولعل أهمها مدينة طليطلة التي سقطت عام 479هـ، وهذا ما دفعه إلى الهجرة لطلب العلم في المشرق. 

قصد الطرطوشى بغداد أولا حيث تلقى العلم على يد شيوخها فى المدرسة النظامية، وتنقل بين ربوع العراق والشام، ولكن الصليبيين الذين غادرهم في الغرب يغيرون على مدن الأندلس وحواضرها الكبرى، جاءوا إلى الشرق رافعين الصليب في حروبهم، معلنين الحرب المقدسة على الإسلام.  

 فقد حاصروا مدينة إنطاكية بينما كان متواجدا فيها، وما هي إلا فترة يسيرة حتى سقطت القدس في يد الصليبيين عام 492هـ، ما جعله يقصد مدينة الإسكندرية المصرية ليقيم بها. 

وخلال إقامته بالإسكندرية انتقد الطرطوشي بعض التصرفات المالية لقاضي الإسكندرية ابن حديد ومجافاتها لقواعد الشرع، والحياة المترفة التي كان يحياها، وأشاع الناس نقد الطرطوشي وتناقلوه بينهم، ما أساء إلى سمعة القاضي، كما أفتى الطرطوشي بتحريم الجبن الذي يأتي به الروم إلى الإسكندرية، والتي كان يباركها القاضي .

رسالة أبو بكر الطرطوشى فى تحريم الجبن الرومى 

استند الطرطوشى في فتوى "تحريم الجبن الرومي" والتي كان يشتريها الناس إلى عدة أسس، منها ما هو اقتصادي، وديني، وصحي. 

أما البعد الاقتصادي الذي تبناه الطرطوشى في تحريم استيراد "الجبن الرومي" فهو المقاطعة الاقتصادية للدول الصليبية عن طريق رفض صادرتها إلى الشرق الإسلامي، خاصة من أهل الحرب دون غيرهم، وأعلى من مشروعية الضرر الاقتصادي للعدو، واعتبر الطرطوشى استيراد هذه "الجبن الرومية" من الكماليات التى يمكن الاستغناء عنها؛ لذا فإن المسلمين ليسوا بحاجة إلى المواد والسلع الواردة من بلاد الحرب. 

وفيما يتعلق بالشق الصحي والديني، فقد استند الطرطوشى في فتواه إلى شهادات التجار الذين أكدوا له أن الروم يخلطون هذه الجبن بشحوم الخنازير، وهو ما حرمه الله – عز وجل – في كتابه العزيز، كم أكد عدم مشروعيتها من قاعدة "عدم أكل الميتة"، حيث أن الشحوم التي تُصنع منها تلك الأجبان تستخرج من حيوانات غير مذبوحة إسلاميا. 

جمع القاضي  ابن حديد هذه المآخذ كلها ورفعها إلى الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي، وأوضح  له خطورة هذا الرجل على الإسكندرية وسكانها، فأرسل إليه، وحدد إقامته في الفسطاط في أوائل سنة 515 وظل معتقلاً حتى شوال من السنة نفسها إلى أن قُتل الوزير الأفضل، وانكشفت الغمة عن الطرطوشي وقد تولى الوزارة صديقه المأمون البطائحي الذي أفرج عنه وقرَّبه إليه.

وبمجرد عودة الطرطوشي إلى الإسكندرية، قام بتأليف كتاب في أصول الحكم والسياسة وما يجب أن يكون عليه الراعي والرعية، وأتمه في سنةٍ، وسمَّاه "سراج الملوك"، وقد أهداه إلى الوزير المأمون البطائحي الذي استقبله بكل ترحيب.

وإلى عصرنا الحديث فقد أنشأت جامعة الدول العربية جهاز المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل عام 1951م، وما زال هذا الجهاز يعمل ضمن أجهزة الجامعة الإدارية حتى الآن . 

وفور إعلان عبور القوات المصرية لخط بارليف عام 1973، وحين كانت  مصر تخوض معركة الكرامة ضد إسرائيل، تبنى العاهل السعودي الراحل مبدأ "المقاطعة" وحظر تصدير البترول إلى أمريكا والغرب، ما كان له أكبر الأثر في تحقيق الانتصار. 

وقبل 10 سنوات حين قامت إحدى الصحف الدنماركية بالإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قرر المسلمون مقاطعة منتجات الدنمارك، حيث كانت منتجات الألبان في الصدارة، ، وقد أضرت تلك المقاطعة بنحو 85% من صادرات الألبان الدنماركية، دون أن يدرك الكثير من المسلمين  أن أحد أئمتهم قد أفرد رسالة في "تحريم الجبن الرومي" قبل 1000 عام.    

التعليقات