لم يكن غريبا أن يرفض شيخ الأزهر لقاء نائب الرئيس الأمريكي، فالمؤسسة التعليمية الأقدم في مصر، كانت عبر تاريخها مستودع حراك ضد الاحتلال وما يمثله من ظلم، وطالما وقف شيوخ أجلاء في وجه سلطان جائر أو كان في طريقه لأن يكون كذلك، وطالما لجأ المصريون إلى الأزهر باحثين عن البوصلة المرشدة، حين يختلط الحابل بالنابل فيضيع الطريق وتغوص الأقدام.
"الأزهر لا يمكن أن يجلس مع من يزيفون التاريخ ويسلبون حقوق الشعوب ويعتدون على مقدساتهم" كلمات هبت كالعاصفة ونزلت كالصاعقة، خرجت من فم رجل يتمتع باحترام واسع بين ملايين المسلمين حول العالم، جاءت ردًا على الغطرسة الأمريكية وانتهاكها الأعراف والقوانين الدولية بعدما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها. هذه الكلمات جاءت ضمن بيان خرج من مشيخة الأزهر الشريف أُعلن خلاله رفض الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، لطلب رسمي من نائب الرئيس الأمريكي مايك بينس، للقاء فضيلته يوم 20 ديسمبر الجاري.
ورغم أن شيخ الأزهر وافق قبل نحو أسبوع على طلب الزيارة، إلا أن القرار الأمريكي المجحف بشأن مدينة القدس، دفع الإمام الأكبر لتغيير موقفه ورفضه الشديد لللقاء، قائلًا: كيف لي أن أجلس مع من منحوا ما لا يملكون لمن لا يستحقون، ويجب على الرئيس الأمريكي التراجع فورا عن هذا القرار الباطل شرعًا وقانونًا.
بيان شيخ الأزهر تصدر اهتمامات وسائل التواصل الاجتماعي على مستوى العالم ولاقى تأييدًا كبيرًا من كل المتعاطفين حتى من غير المسلمين مع القضية الفلسطينية، فيما قوبل باستهجان شديد من قبل الإدارة الأمريكية التي حملها الدكتور أحمد الطيب المسئولية الكاملة عن إشعال الكراهية في قلوب المسلمين ومحبي السلام في العالم وإهدار كل القيم والمبادئ الديمقراطيه ومبادئ العدل.
وبعدما أعلنت فصائل فلسطينية عن انتفاضة ثالثة في وجه الطغيان الإسرائيلي، جاء تأييدالإمام الأكبر للانتفاضة، الجمعة، بمثابة نداء عاجل لأهالي القدس المحتلة، وأضفى شرعية دولية وإسلامية عليها قائلا: "لتكن انتفاضتكم الثالثة بقدر إيمانكم بقضيتكم ومحبتكم لوطنكم، ونحن معكم ولن نخذلكم".
عاد الأزهر إذن، من بعد غياب طويل، وإن لم يغب عن أمته لكنه كان غائبًا عن نفسه وقيمته، فالأزهر ليست مؤسسة كتلك المؤسسات القائمة بين جدران وأسقف، وإنما هو وتد، إن نهض نهضت معه الأمة وعلا شأنها في ربوع الأرض، والأمة معه إن كان غير ذلك.
عانى الأزهر طويلًا منذ خمسينيات القرن الماضي من دعوات تحجم دوره وتحط من قدره، ورغم الحرب الشرسة تلك إلا أنه استطاع أن يظل واقفًا على الأقدام، ومازالت تلك الدعوات قائمة دون غياب بين محاولة البعض سن قوانين وتشريعات يتخلل مضمونها سمومًا تريد تحويل الأزهر إلى مدرسة شرعية لا أكثر، وبين أبواق تخرج على شاشات التلفاز تظهر كم الكراهية الذي تكنه للمؤسسة العريقة بدعوات لا أساس لها ولا منهجية، متجاهلين قيمته كمنبر للوسطية عبر التاريخ.
لم يكن موقف الأزهر متباينًا بشأن قضية القدس يومًا، فلم يتخل عنها ولن يتخلي، حيث أنه وبالرغم من أن قرار نقل السفارة الأمريكية يعود للعام 1995 بعد إقرار الكونجرس الأمريكي لقانون يفيد بذلك، إلا أن الأزهر وقتها لم يقف مكتوف الأيدي أمام ذلك القانون وهو ما تبين في موقف شيخ الأزهر وقتها الدكتور جاد الحق علي جاد الحق، الذي كانت تشغل قضية القدس حيزًا كبيرًا من اهتماماته.
بعد قرار الكونجرس واجه الإمام الأكبر جاد الحق طغيان أمريكا ببيان كذب فيها ادعاءاتها وفند فيها أكاذيبها، قائلًا: إن أمريكا تزعم أنها صديقة كل العرب، وهي أصدق في صداقتها بإسرائيل تؤيدها وتدفعها لمزيد من العدوان علي العرب وحقوقهم, وتساعدها في وضع العراقيل نحو إتمام عملية السلام التي تتظاهر بدعمها، لكنه دعم غير عادل فهو دعم للمعتدين الظالمين واستهانة وهدم لقرارات منظمة الأمم المتحدة وإن الأزهر الشريف يرفض هذا القرار الظالم من أمريكا، وهذا القرار أكد أن دعاة السلام صاروا دعاة للغدر والاغتيال للأرض والعرض والمقدسات لا يرعون حقًا للغير، ولا يدعون إلي خير, وإنما يسعون في الأرض فسادًا.
ورفض الإمام الراحل جاد الحق سياسة التطبيع مع إسرائيل ما استمرت في اغتصابها للأرض العربية، قائلًا: لا سلام مع المغتصبين اليهود، ولا سلام إلا بتحرير الأرض العربية، ورفض فضيلته زيارة المسلمين للقدس بعدما أفتي بعض العلماء بجواز ذلك بعد عقد اتفاقية أوسلو عام 1993 وكان من بين ما قاله: إن من يذهب إلي القدس من المسلمين آثم آثم.. والأولي بالمسلمين أن ينأوا عن التوجه إلي القدس حتي تتطهر من دنس المغتصبين اليهود.
وبينما رفض شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب طلب مقابلة نائب الرئيس الأمريكي له، رفض الإمام الراحل جاد الحق أن يستقبل الرئيس الإسرائيلي عيزرا وايزمان إبان زيارته للقاهرة، وبعد عقد اتفاقية أوسلو عام 1993, مما سبب حرجًا شديدا للحكومة المصرية وللرئيس الصهيوني وقتها، ودعا إلى الجهاد ضد إسرائيل وطالب الحكومة المصرية بأخذ القصاص ممن قتلوا أسرانا عمدًا في أعقاب حرب 1967.
1047 عامًا والأزهر منذ إنشائه على يد جوهر الصقلي سنة 970م، يعاني سهام الكارهين، ذلك أنهم يعلمون أن انتفاضة العمائم لا يخمدها أحد ولا يستقوي أحد عليها، فمواقف الأزهر وأدواره لا ينكرها إلا حاقد ولا ينقدها إلا كاره، فمن محاربة الاحتلال ودعوات الجهاد ضده عبر مر العصور، إلى الوقوف بوجه الملوك والرؤساء الظالمين، لإصدار الوثائق وإطلاق المبادرات التي تدعوا إلى السلم المجتمعي ونبذ العنف والوحدة.
فمنذ وقوف الأزهر الشريف كقائد للشعب المصري ضد حكم المماليك، رفضًا للجبايات التي فرضها الألفى باشا، وكانت ثورة الشيخ عبدالله الشرقاوى شيخ الجامع الأزهر، والمؤسسة العريقة في أذهان الغاصبين، ففي عهد الشيخ الشرقاوي قاد الأزهر ثورة ضد الاحتلال الذي أتت به الحملة الفرنسية، ودفع الثمن بأن اقتحم الاحتلال الفرنسي صحن الأزهر، وضرب الجامع بالمدافع، بعد أن دنسه بخيول عساكره.
ولم تقف ثورة الأزهر عند هذا الحد بل حث المصريين على رفع شعار "الشعب يريد إسقاط خورشيد باشا"، وأسهم في عزله وتعيين محمد علي باشا واليًا على مصر، سنة ١٨٠٣ وفرض الأزهر مبتغاه حتى على السلطان العثماني في اسطنبول.
ولعب الأزهر الشريف، دورا مهمًا في ثورة 1919، وكان منبرًا ألهب حماس المصريين، وقاد الأزهر التظاهرات، وفي الحرب العالمية الثانية رفض شيخ الأزهر آنذاك محمد مصطفى المراغى، مشاركة مصر في الحرب العالمية الثانية ورفض تأييدها، وأعلن أن مصر لا ناقة لها ولا جمل في هذه الحرب.
وبينما هدده رئيس الوزراء المصري حسين سري باشا الذي عنفته الحكومة البريطانية بعد موقف الإمام الراحل، كان رد شيخ الأزهرالشهير "أتهدد شيخ الأزهر؟ وشيخ الأزهر أقوى بمركزه ونفوذه بين المسلمين من رئيس الحكومة، لو شئتُ لارتقيت منبر مسجد الحسين، وأثرت عليك الرأى العام".
ووقف الإمام المراغي أيضًا في وجه ملك مصر فاروق، الذي طلب منه استصدار فتوى تحرم زواج الملكة فريدة طليقته من أى شخص آخر بعد طلاقها، ورد عليه الإمام بالقول "إن المراغى لا يستطيع أن يحرم ما أحل الله".
وبعد رحيل المراغي وقف شيخ الأزهر عبد المجيد سليم البشرى، ناقدًا بذخ الملك فاروق بسبب رحلة شهر العسل التى قام بها مع زوجته ناريمان، وواجه كذلك شيخ الأزهر إبراهيم حمروش، في خمسينيات القرن الماضي، تدخل السلطة في شئون الأزهر، كما رفض قرار الحكومة بتقليص ميزانيته.
ومع ستينيات القرن الماضي قدم شيخ الأزهر محمود شلتوت استقالته لاعتراضه على إنشاء وزارة لشؤون الأزهر تحد من استقلالية المشيخة الأزهر، ولما للأزهر من قوة في نفوس المصريين، كان اختيار الرئيس جمال عبدالناصر له ليخطب من فوق منبره بعد العدوان الثلاثي وأطلق كلماته الشهيرة في 2 نوفمبر 1956: "إذا كانت بريطانيا بتعتبر إنها دولة كبرى، وفرنسا بتعتبر إنها دولة كبرى، إحنا شعب مؤمن، هيكون شعارنا دائماً الله أكبر، الله يقوينا، والله ينصرنا".
وفي منتصف السبعينيات، استقال الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر، على خلفية قرار الرئيس أنور السادات تقليص بعض صلاحيات شيخ الأزهر، ما أحدث دويًا هائلًا في مصر وسائر أنحاء العالم الإسلامي، واضطر السادات إلى عودته على رأس المشيخة، كما اعترض الإمام الراحل على قانون الأحوال الشخصية، وأكد عدم مطابقة بعض مواده للشريعة ولم يخرج القانون للنور حتى وفاته.
وخاض الأزهر الشريف، و إمامه الشيخ جاد الحق، في منتصف التسعينيات معركة شرسة ضد بعض بنود مسودة إعلان مؤتمر القاهرة الدولى للسكان، ورأى أنها تناهض الأديان وتعتدى على الكرامة الإنسانية، وتبيح الشذوذ الجنسي، والإجهاض، والحمل دون زواج، وعقب بيان الأزهر أصدر الرئيس الأسبق حسني مبارك بيانًا أكد فيه أن مصر المسلمة لن تسمح للمؤتمر بأن يصدر أي قرار يصطدم مع الدين والقيم.
في 2011 أعلن شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وثيقة، المرجعية الإسلامية النيرة ودعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، كما أصدر وثيقة "الربيع العربى" لدعم إرادة الشعوب العربية فى تحقيق الديمقراطية، ووثيقة الحريات العامة، أكد فيها ضرورة احترام حريّةُ العقيدة، و حرية الرأي والتعبير، كما دشن بيت العائلة المصرية برئاسة شيخ الأزهر والبابا شنودة، ليكون مقره الأزهر، بهدف الحفاظ على النسيج الاجتماعي لأبناء مصر.
وفي 2013 وقعت فصائل سياسية برعاية الأزهر الشريف على أربعة مبادئ لحماية الدولة المصرية، كذلك شارك شيخ الأزهر أحمد الطيب في إعلان خارطة الطريق عقب تظاهرات 30 يونيو، معتبرًا مشاركته واجبًا شرعيًا، وساند الطيب عقد انتخابات رئاسية مبكرة، وفي 2013، رفض الأزهر مشروع قانون الصكوك الإسلامية، لمخالفته الشريعة.
مواقف الألف عام ويزيد، لا تسطرها مؤلفات ولا تحويها كتب التاريخ، ليكون الأزهر ذخرًا لأمته، وعصيًا على الظلم والفساد والطغيان ودعوات الانكسار، وتظل مؤسسة العمائم البيضاء ثائرةً مادام الحق غائبًا.
التعليقات