تلقيت ردود وتعليقات عديدة ومتنوعة بعد نشر مقالي "اكتب نعيك بنفسك"، البعض ذكر أنه بالفعل كتب نعيه وحدد فيه أسماء أقاربه خوفا من أن أبنائه قد لا يتذكرونهم أو لا يعرفونهم! والبعض الآخر أظهر فهما أعمق محذرا من التحيز للذات في كتابة النعي، وفي مجمل التعليقات اكتشفت أان الأمر بحاجة إلى استكمال لبيان المقصود، فلم يكن هدفي كتابة النعي حرفيا على النحو المنشور في صفحات الوفيات، ولكن ما قصدته أن تترك بصمة خلفك أو تذكر نفسك في الوقت المناسب بهذا الهدف الوجودي وتسعى إلى تحقيقه وهو أمر قريب من فكرة كشف الحساب الختامي لمسيرتك. فهى دعوة للتساؤل والتفكير في شيء تقوله لنفسك او يقال عنك بعد رحيلك يجسد بصمتك في الحياة.
على مدى عمرك المديد ما الذي قدمته غير إشباع الاحتياجات والرغبات البيولوجية التي يقوم بها عادة كل كائن حي؟ متضمنا مستلزمات ذلك كالبحث عن مصدر رزق لتحقيق ذلك لك ولمن تعول. وبغض النظر عن المستوى الاجتماعي الاقتصادي الذي تعيشه، ما البصمة التي تركتها او الإضافة التي تخرج عن تلك المهام المعتادة، وتختلف عن واجباتك الحياتية المعروفة؟ هناك مساحة خارج الروتين اليومي قد تتسع أو تضيق بحسب رغبة وقدرات وثقافة وعلم صاحبها، مثل الإضافة المعرفية او العلمية للبشرية او الانسانية لخدمة مجتمعك او حتى للتقليل من حجم القبح أو توسيع مساحة الخير والجمال.
باختصار هي وقفة محاسبة للنفس لكي ننظر في مسرى ومسيرة حياتنا لنتساءل ما الأثر الذي سوف يبقى بعد الرحيل؟ حتى لا نمر في هذه الدنيا مجرد رقم في تعداد الكوكب، لأن قيمة الإنسان هي ما يضيفه إلى الحياة خلال رحلته بين ميلاده وموته. فلا شيء يوازي سعادتك بأنك قدمت شيئًا يستحق التقدير، بحيث لا تكن مجرد طيف عابر في حياة الناس فلا يشعر أحد بوجودك، وإنما تترك (بصمة) يتذكرونك بها بالحسنى او لكي تستمر حسناتك بعد وفاتك، ومن هنا جاء القول المأثور "السيرة أطول من العمر" وإذا اضفت للسيرة، مسيرة عامرة بأعمال باقية في وجدان الناس أو ذاكرتهم فلا شك سوف يكون وجودك إضافة حقيقية للحياة، وهذا هو المهم ، لأنك إذا لم تزد على الحياة شيئًا، فسوف تصبح أنت زائدًا عليها!!
على قدر عزيمتك وقدرتك وإمكاناتك وظروفك تكون بصمتك .. البعض يعمل على مشاريع علمية أو فكرية كبرى كرس نفسها لإنجازها مثل ما فعله د.أحمد زويل وزملائه من العلماء الحاصلين على جائزة نوبل أو د.مجدي يعقوب وأمثاله من الأطباء العظام الذي وهبوا حياتهم للنهوض بالطب وعلاج المرضى وتعليم صغار الأطباء، أو د. جمال حمدان الذي أهدى بلده موسوعته العظيمة: "شخصية مصر" .
ولكن ليس من الضروري أن تتجسد هذه البصمة في مشاريع كبرى، وإنما قد تكون أعمالا بسيطة، فهناك أناس عاديون تركوا بصمات في مجتمعاتهم الصغيرة شكلت منارات ظل الناس يذكرونها بعد رحيلهم، وهنا اذكر أعمال الشيخ عبد العزيز البخانسي في قريته بخانس والقرى التي حولها، حيث أقام العديد من الاستراحات على الطريق السريع بين مركزي أبو تشت ونجع حمادي بمحافظة قنا من خلال بناء مصطبة وزرع شجرة وتثبيت زير كنواه لاستراحة على الطريق ثم كرر هذه الفكرة في عدة أماكن. رحل الشيخ عبد العزيز وبقيت هذه الاستراحات تزين سيرته العطرة أمام بصر الناس وفي وجدانهم.
قد تكون البصمة في ميدان عملك من خلال فكرة تشكل إضافة لمسيرة المهنة أو الوظيفة، او في المجال العلمي والبحثي قد تسفر عن ابتكار يفيد البشرية أو تتجسد في عمل إبداعي، أو في الميدان الاجتماعي لإسعاد الآخرين بمختلف الطرق المتاحة او في المجال الخيري لقضاء حوائج الناس، وقد تكون أيا من مجالات الصدقات الجارية. بل قد تغدو أخلاقك الحميدة بصمتك الحقيقة في الحياة .وقد تتسع مساحة هذه الإضافة لتترك بصمة في كل محطة من رحلة حياتك لتظل مزهرًا في كل مكان.
في جميع الاحوال، احرص على نحت بصمتك بعمق في صخرة الحياة ولا تتركها مجرد أثر خفيف على الرمال فيصبح هشيما تذروه الرياح في أول شتاء!
التعليقات