المثقف الملتزم.. تشومسكى نموذجا

المثقف الملتزم.. تشومسكى نموذجا

د. محمد يـونس

تعرض المفكر والفيلسوف الأمريكى الكبير نعوم_تشومسكى (95 عاما)، أخيرا لوعكة صحية شديدة، أثارت حالة من الجدل وصلت إلى شائعات بوفاته. ولكنه والحمد لله يستكمل علاجه حاليا بمنزله، وعلى الرغم من إصابته بالسكتة الدماغية فإنه ما زال يرفع يديه دعمًا لغزة وفلسطين كلما جاء ذكرهما فى نشرات الأخبار، أنه نموذج فريد للمثقف الملتزم الذى لا ينفصل عن قضايا عالمه، والمنحاز للعدالة حتى لو تعارضت مع معتقداته وعمله. وعلى خلاف عادتنا فى تذكر فضائل الشخصيات الفريدة عقب وفاتها، ربما فى فهم مغلوط وسطحى لمقولة «اذكروا محاسن موتاكم»، نرى أنه من الأفضل رصد هذه المحاسن فى حياتهم إحقاقا للحق وانطلاقا من أن كلمة طيبة فى حياة الإنسان أفضل من مليون وردة على قبره، خاصة حينما يكون فى قامة تشومسكى الذى صُنف ضمن أهم الفلاسفة الناطقين بالانجليزية فى العالم!

النظرة العابرة لهذا العالم والفيلسوف الكبير تفضى بنا إلى أنه يجمع بين أضداد ولكن الرؤية المتعمقة توضح أنه بفكره ومواقفه فاق فكرة الأضداد، وأصبح ظاهرة علمية إنسانية عالمية ونموذجا يجسد أهمية دور المثقف فى التحولات التاريخية، حيث تنأى به المعرفة والالتزام الأخلاقى عن التبعية للسلطة أو الانعزال فى برج عاجى بعيدا عن هموم الناس.

فقد بدأ حياته صهيونيا يساريا وكاد يترك دراسته الجامعية للتطوع فى «كيبوتس» يهوديّ فى الأراضى الفلسطينية، ولكنه مع تطور وعيه عدل عن ذلك، بل أصبح أكبر منتقد للصهيونية لدرجة اتهامه بمعاداة السامية!

وهو الذى يوصف بأنه «أسد اليسار» وفى الوقت نفسه انتخبه قُراء «بروسبيكت» (المجلّة اليمينية البريطانية) فى 2005 باعتباره المثقف الأوّل فى العالم!. وقضى تشومسكى أهم سنوات عمره فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أقرب الجامعات الأمريكية إلى (وزارة الدّفاع الأمريكية)، ولكنه فى الوقت ذاته يعتبر أبرز المثقفين الأمريكيين الناقدين للإمبريالية، وللسياسة الخارجية الأمريكية!

وبحسب فهرس مراجع الفنون والإنسانيات، بين 1980 و1992 ذكر اسم تشومسكى كمرجع أكثر من أى شخص آخر حى، فهو عالم اللسانيات، والذى أبدع نظريات رائدة حول القدرات اللغوية البشرية وارتباطها بالدماغ. وقد أثر عمله فى مجالات كثيرة تتضمن العلوم والفلسفة وعلوم الكمبيوتر والرياضيات وعلم النفس والأنثروبولوجيا، وفى الوقت نفسه تجده صاحب المواقف السياسية الواعية الرافض الظلم والعدوان والحرب، فقد عارض الحرب الأمريكية على فيتنام عام 1967 وأصدر كتابه الشهير عن مسئولية المثقف، وشارك فى الاحتجاجات ضدّها، وساند حركة الطلاب الاحتجاجية عام 1968، واعتقل عدة مرات وأدرجه الرئيس الأمريكى آنذاك نيكسون ضمن لائحة أعداء البلاد!

يرى تشومسكى أن هجمات 11 سبتمبر 2001 اشتهرت فقط لأنها فعل خارجى ضد الغرب، لافتا إلى أنه لا أحد يتذكر أن هناك 11 سبتمبر وقعت عام 1973 حين رعت الولايات المتحدة انقلابا دمويا فى تشيلى. كما عارض الغزو الأمريكى البريطانى للعراق عام 2003، معتبرا أن ذلك الغزو هو الذى أوجد البيئة المناسبة لنشأة داعش، بسبب ما خلفه من تدمير للمجتمع العراقى وإرساء للطائفية فيه .وقال إن الولايات المتحدة الأمريكية تخشى قيام أى ديمقراطية حقيقية فى المنطقة العربية.

وثق تشومسكى معارفه ونظرياته العلمية وأيضا آراءه ومواقفه السياسية فى أكثر من 150 كتابا بمجالات علم اللغة والفكر السياسى والاجتماعى والاقتصاد السياسى والدراسات الإعلامية، والسياسة الأمريكية الخارجية والشئون العالمية. عناوين هذه الكتب تشير الى ذلك ومن أبرزها: اللغة والعقل وأسرار الكلمات ومواضيع فى نظرية القواعد التوليدية، والانسحاب: العراق وليبيا وأفغانستان وهشاشة القوة الأمريكية والهاوية: النيوليبرالية والوباء والحاجة الملحة للتغيير الاجتماعى وأسطورة المثالية الأمريكية… كيف تُعرّض السياسة الخارجية الأمريكية العالم للخطر وسلطة أمريكا والبيروقراطيين الجدد، وحياة منشق، والحادى عشر من سبتمبر، وهيمنة الإعلام، والقوة والإرهاب.

هذه الأعمال الرائدة أهلته للفوز بالعديد من الجوائز، منها جائزة أورويل عامى 1987 و1989 فى بريطانيا، وجائزتا كارل فون أوسيتزكى (2004) وإريك فروم (2010) فى ألمانيا. كما حصل تشومسكى على درجات دكتوراه فخرية من نحو 40 جامعة عالمية، إضافة إلى عضويته فى عدة أكاديميات علمية أمريكية ودولية. وهو داعم للعديد من القضايا العادلة وفى مقدمتها القضية الفلسطينية الحاضرة بقوة فى مواقفه وفى مؤلفاته، وهذا يحتاج إلى مقال آخر.

التعليقات