فى تصورى أن أهم رسائل مشروع «رأس الحكمة» الاستثمارى الضخم الذى أعلن تفاصيله رئيس مجلس الوزراء د. مصطفى مدبولى، أمس الأول الجمعة، هى تأكيد قدرات مصر الاقتصادية الذاتية الهائلة والمتنوعة فى مختلف المجالات، والأهم أنه يؤكد ثقة الاستثمارات الدولية فى الاقتصاد المصرى، وقدرته على تجاوز الأزمات والتحديات الحالية، ليعود أفضل مما كان عليه قبل تلك الأزمات.
أعتقد أن هناك مزايا عديدة تتعدى حدود تجاوز الأزمة الاقتصادية الحالية، ومعالجة مشكلات الفجوة الدولارية التى نتجت عن الأزمات العالمية المتتالية، بدءا من جائحة «كورونا»، مرورا بالحرب الروسية ـ الأوكرانية، وانتهاء بالحرب على غزة.
كان من الطبيعى أن يتأثر الاقتصاد المصرى مثله مثل غيره من الاقتصادات العالمية القوية والضعيفة على السواء، ولأننا من الاقتصادات الناشئة، فقد كان التأثير أقوى، ونتج عن تلك المشكلات أزمات كثيرة، خاصة ما يتعلق باتساع الفجوة الدولارية نتيجة ارتفاع تكاليف فاتورة الاستيراد مقابل انخفاض العوائد الدولارية من التصدير أو السياحة أو إيرادات قناة السويس، وغيرها من المصادر التقليدية أو غير التقليدية.
للأسف الشديد، اعتقد البعض بسوء نية أن تلك فرصتهم للثراء غير المشروع، وأسهموا فى ازدياد الأزمة تعقيدا بالمضاربة على أسعار الدولار والذهب، ومارسوا أبشع أنواع الاحتكارات، اعتقادا أن الأزمة سوف تطول، وأنها سوف تزداد تعقيدا وعمقا فى ظل الأوضاع العالمية المعقدة والمتشابكة.
أمس الأول كان الرد العملى، وليس الكلام أو التصريحات، وميزة هذا الرد العملى أنه جاء كأضخم استثمار أجنبى مباشر فى تاريخ الدولة المصرية، مع العلم أن كل خبراء الاقتصاد والمهتمين والمتابعين للشأن الاقتصادى يعلمون جيدا أن الاستثمار الأجنبى لا يعرف المجاملة، وهناك فرق ضخم بين الإعانات والاستثمارات، ومن هنا تأتى أهمية تلك الصفقة الكبرى التى تبلغ عوائدها، كما أعلن رئيس مجلس الوزراء، نحو 35 مليار دولار بشكل مباشر لمصلحة الخزانة المصرية، بالإضافة إلى عوائدها اللانهائية التى تبلغ 35٪ من أرباح المشروع إلى ما لا نهاية، إلى جانب العوائد غير المباشرة التى تبلغ أكثر من 150 مليار دولار طوال مدة إقامة وتشغيل المشروع.
تابعت المؤتمر الصحفى الذى عقده د. مصطفى مدبولى، رئيس مجلس الوزراء، وعدت بذاكرتى إلى حديث الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال احتفالات عيد الشرطة فى الشهر الماضى بمقر وزارة الداخلية للصحفيين والإعلاميين، حيث كان واثقا من قرب انتهاء الأزمة، مؤكدا وجود حلول غير تقليدية فى هذا الإطار عاجلة وآجلة، ومن هنا كان تأكيد رئيس مجلس الوزراء على الدور المحورى الذى قام به الرئيس عبدالفتاح السيسى مع شقيقه محمد بن زايد، رئيس دولة الإمارات، لتذليل كل العقبات التى تواجه إتمام تلك الصفقة الاستثمارية الضخمة، وتدفق عوائدها طبقا لجدول زمنى يبدأ خلال الأسبوع الحالى بمقدم يصل إلى 15 مليار دولار ما بين سيولة مباشرة (10 مليارات دولار) وودائع (5 مليارات دولار)، وخلال الشهرين المقبلين، سيتم استكمال مقدم الصفقة بنحو 20 مليار دولار ما بين سيولة مباشرة (14 مليار دولار)، وودائع (6 مليارات دولار).
ميزة هذه الصفقة الاستثمارية الأجنبية الضخمة أنها بعثت رسائل «طمأنة وثقة» إلى كل المستثمرين من مختلف دول العالم، وفتحت الباب واسعا لحل إشكالية ضخمة كانت دائما تبحث عن حل، وهى كيفية زيادة الاستثمارات الأجنبية المباشرة وتدفقها إلى الاقتصاد المصرى، بوصف ذلك هو العامل المؤثر الأقوى والأضخم فى الاقتصادات العالمية، حيث تُقاس قوة اقتصاد أى دولة بمدى قدرته على جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
المعروف والمعلوم بالضرورة اقتصاديا أن الاستثمارات الأجنبية تذهب دائما إلى الاقتصادات القوية والدول المستقرة سياسيا واقتصاديا، فلا يمكن أن يذهب دولار واحد إلى دولة «مأزومة» اقتصاديا و«مهزوزة» سياسيا، وهناك تعبير اقتصادى شهير يتردد دائما، وهو أن «رأس المال جبان»، لأن رأس المال لا يذهب إلى حيث لا يعرف، وإنما يذهب دائما إلى الاقتصادات القوية، والدول المستقرة سياسيا وأمنيا.
لكل هذا، فإن أهمية تلك الصفقة الاستثمارية الكبرى لا تتوقف عن كونها «مخرجا عاجلا» من أزمة الفجوة الدولارية الحالية، وقدرتها على إعادة الثقة للاقتصاد المصرى، وإعادة المصادر الدولارية إلى قنواتها الشرعية فى البنوك، خاصة ما يتعلق بتحويلات المصريين فى الخارج أو عوائد السياحة والتصدير، والأهم من كل ذلك وقف المضاربات على الدولار والذهب من المحتكرين والمضاربين، أو حتى من بعض الأفراد الذين ساروا بحسن نية وراء تلك الشائعات.
للأسف الشديد، كانت هناك محاولات مستميتة لضرب الاقتصاد الوطنى من المغرضين وقنوات الشر فى الخارج من أجل تعميق الأزمة، وهز الاستقرار السياسى والاقتصادى للدولة، فى إطار محاولاتهم اليائسة لتكرار مشاهد كريهة عانى ولايزال يعانى منها المصريون حتى الآن، وكلفت الاقتصاد المصرى فاتورة باهظة بلغت ما يقرب من 440 مليار دولار، لكن كان وعى المواطن أقوى، وجاءت الصفقة الاستثمارية الكبرى لتؤكد أن ثقة المواطن كانت فى محلها فى دولته وقيادته.
على الجانب الآخر، فقد كان رئيس مجلس الوزراء د. مصطفى مدبولى ذكيا حينما أشار إلى أن مشروع «رأس الحكمة» الاستثمارى ليس هو المشروع الوحيد فى هذا الإطار، وإنما سبقته مشروعات عديدة مماثلة، وأعتقد أنه كان يقصد مشروعات كثيرة حدثت فى مجال الاستثمار العقارى والسياحى مثل مشروعات مدينتى والرحاب والجونة، وغيرها من تلك المشروعات الاستثمارية الناجحة فى هذا المجال وغيره.
صحيح أن مشروع «رأس الحكمة» هو المشروع الأضخم، لأنه يقام على مساحة 170٫8 مليون متر مربع، بما يعادل 40 ألفا و600 فدان، وأنه استثمار أجنبى مباشر، لكن سبقته مشروعات كثيرة محلية لمستثمرين، مصريين وعرب، وإن لم تكن بتلك الضخامة، لكنه توضيح مهم لوضع النقاط على الحروف لكل من يحاولون تشويه تلك الصفقة أو إخراجها من سياقها الطبيعى، والتأكيد على أنها مجرد مشروع استثمارى ضخم مثله مثل غيره من عشرات المشروعات السابقة فى هذا المجال، والفرق فقط هو ضخامة هذا المشروع وعوائده الهائلة، وأنه استثمار أجنبى مباشر سوف تكون له عوائد ضخمة، عاجلة وآجلة، على الاقتصاد المصرى.
يتبقى بعد ذلك ضرورة استثمار الحكومة هذا الحدث الاقتصادى الضخم على عدة مستويات، أبرزها ما يلى:
أولا: أن تكون تلك الصفقة الاستثمارية الضخمة بداية وليست نهاية، كما أشار رئيس مجلس الوزراء، لصفقات استثمارية أجنبية أخرى لا تقل ضخامة عن تلك الصفقة فى مجالات الصناعة والإنتاج واستغلال الإمكانات المصرية الهائلة فى هذا المجال، خاصة ما يتعلق بموقعها الجغرافى، حيث إنها بوابة إفريقيا وآسيا وأوروبا، واستغلال ميزة توافر العمالة الرخيصة من أجل جذب الكثير من الصناعات العالمية وتوطينها فى مصر، فى إطار تحويل الاقتصاد الوطنى من اقتصاد شبه ريعى إلى اقتصاد إنتاجى.
ثانيا: وضع خطة محددة المدة لزيادة الإنتاج فى مختلف المجالات، بما يؤدى فى النهاية إلى خفض فاتورة الاستيراد، وزيادة فاتورة الصادرات، لأنه لن يكون هناك تصدير مادام استمر الإنتاج ضعيفا، وكذلك الحال، فإن فاتورة الاستيراد سوف تظل مرتفعة طالما استمرت الفجوة بين الإنتاج والاستيراد بالسالب، مع تدنى معدلات الإنتاج.
ثالثا: الاستفادة القصوى من تلك الصفقة وما يعقبها من قرب الانتهاء من توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولى، لإعادة الاستقرار إلى أسواق الدولار والعملات الأجنبية، وانعكاس ذلك على عودة أسعار السلع والخدمات إلى معدلاتها الطبيعية، بما ينعكس إيجابيا على قدرة المواطنين فى التعامل مع متطلبات الحياة اليومية.
هذا الأمر يحتاج إلى تفعيل أدوات الرقابة الحكومية، والضرب بيد من حديد على أيدى المحتكرين والمضاربين، فلا يعقل أن تنخفض أسعار الدولار والعملات الأجنبية وتظل أسعار السلع على ما هى عليه الآن من مستويات جنونية وغير مقبولة؟! وهو ما يتطلب استخدام كل الوسائل القانونية فى مطاردة المحتكرين والمضاربين والمتلاعبين خلال الفترة المقبلة.
أخيرا، فإن نجاح توقيع اتفاق أضخم صفقة استثمار أجنبى مباشر فى تاريخ مصر فى تلك الفترة إنما يعكس حجم الثقة فى قدرات الدولة المصرية، ورئيسها عبدالفتاح السيسى، وشهادة ثقة دولية فى الاقتصاد المصرى، وقدرته على تجاوز أزماته، وعودته إلى مساره الطبيعى فى النمو والانطلاق فى ظل هذه الظروف الدولية والإقليمية المتشابكة والمعقدة.
التعليقات