معالجة الأسباب الجذرية لأزمات الغذاء

معالجة الأسباب الجذرية لأزمات الغذاء

د. أحمد شاهين

في ظل تعدد المساعي الدولية لتعزيز الأمن الغذائي والقضاء على الجوع ضمن أهداف التنمية المستدامة المزمع تحقيقها بحلول عام ۲۰۳۰ جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، فقد أدت عدة دوافع أساسية خلال السنوات الأخيرة إلى انحراف العالم عن مسار وضع حد للجوع ولسوء التغذية في العالم بجميع أشكاله بحلول عام ٢٠٣٠.

وفي محاولة لفهم السبب الكامن وراء وصول الجوع وسوء التغذية إلى هذه المستويات الحرجة لابد من وضع التحليلات حول الدوافع الرئيسية الكامنة وراء التغييرات الأخيرة الحاصلة على صعيد الأمن الغذائي، والتي تزداد تواتراً، فمنذ أزمة جائحة كوفيد -19 والتدابير المتخذة لاحتوائها تراجع الإنتاج العالمي وتوقفت حركة التجارة الدولية، ثم جاء الصراع الروسي - الأوكراني الذي أبرز الطبيعة المتشابكة والهشة للنظم الغذائية حول العالم. وفضلاً عن تحديات التغيرات المناخية، واجه الاقتصاد العالمي صدمات اقتصادية متعددة تمثلت في اضطرابات سلاسل الإمداد، وحالات التباطؤ والانكماش الاقتصادي والتي تتفاقم جميعاً بفعل الأسباب الكامنة للفقر والارتفاع الكبير والمستمر في مستويات عدم المساواة، وتراجع قيم العملات المحلية بالدول النامية، وارتفاعات متتالية في أسعار السلع الأساسية على رأسها الطاقة والأسمدة والمواد الغذائية؛ ليواجه العالم أزمة في ضمان الأمن الغذائي تهدد عدداً كبيراً من الأسواق خاصة النامية والناشئة وبجانب الأوضاع العالمية غير المواتية فإنه يُلاحظ ارتفاع معدلات هدر الطعام، والتي يترتب عليها مشكلات نقص الغذاء على المدى الطويل. وقد اجتمعت هذه التحديات جميعها لخلق أزمة غذائية ذات أبعاد غير مسبوقة، وعليه تظهر الحاجة إلى معالجة جماعية لانعدام الأمن الغذائي على المستوى العالمي عبر السياقات الإنسانية والتنموية وإحلال السلام.

تتمثل أبعاد الأمن الغذائي في أربعة أبعاد رئيسية وهي التوفر المادي للغذاء والذي يختص بجانب عرض الغذاء، والحصول المادي والاقتصادي على المواد الغذائية والذي يرتبط بحصول الأفراد على الغذاء والاستفادة من المواد الغذائية، والذي يتعلق بتناول الغذاء الصحي المتكامل، وأخيراً استقرار تلك الأبعاد الثلاثة بمرور الوقت، والذي يعني توفر صفة الاستدامة والدورية.

وعندما يجري تناول مشكلة انعدام الأمن الغذائي الحاد، فإنه يعني الحديث عن جوع شديد لدرجة أنه يمثل تهديداً مباشراً لسبل عيش الناس ويعرض حياتهم للخطر. وتعد الدول التي تعاني بالفعل من مستويات مرتفعة من الجوع الحاد عرضة بطريقة خاصة للمخاطر الناجمة عن الأوضاع العالمية المتأزمة خاصة في ظل اعتمادها بشكل هائل على واردات الغذاء ومدخلات الإنتاج الزراعي ومواجهتها لأزمات أسعار الغذاء العالمية. إن آثار الأزمة الغذائية تطال الجميع، لكنها مدمرة بشكل خاص لفقراء العالم، وقد علمتنا التجارب والخبرات أهمية مساندة البلدان النامية التي تضررت من زيادة أسعار المواد الغذائية ونقصها حتى تتمكن من تلبية احتياجاتها الملحة وتجنب الانحراف عن مسار الأهداف الإنمائية الأطول أجلاً، ويعني ذلك تقديم مساندة فورية للشرائح المستضعفة والأكثر احتياجاً وتسهيل التجارة والامدادات الدولية من المواد الغذائية على المدى القصير، مع تعزيز الاستثمار في الزراعة القادرة على الصمود في وجه تغير المناخ على المدى الطويل.

إن التوقعات المستقبلية لإحراز تقدم غير جيدة نظراً لأن حجم الاحتياج هائل ما يتوجب معه حشد الإرادة السياسية والوسائل المالية لوقف الصعود المطرد للجوع الحاد في الوقت الراهن. وفي حال إذا لم يجر بذل المزيد من الجهد لتوفير الدعم للمجتمعات، فإن حجم الدمار من حيث تفشي الجوع سيكون مريعاً.

وقد استهدف التحالف العالمي للأمن الغذائي التركيز على محاور ثلاثة؛ تدعيم تبادل المعلومات بصورة منسقة ومنتظمة في الوقت المناسب وأولاً بأول بين صانعي القرار والإحاطة بالاتجاهات السائدة في المؤشرات الرئيسية للاسترشاد بها فى اتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة، وتتبع وتبادل المعلومات بشأن تمويل أنشطة الاستجابة لتحقيق الأمن الغذائي في وقت الأزمات للمساعدة في تحديد أولويات التمويل والفجوات والفرص المتاحة، وأخيرا تضافر الجهود بين معاهد البحوث الزراعية الرائدة ومراكز البحوث التي تستشرف آفاق المستقبل لتسهيل النهوض بالبحوث والتحليلات المبتكرة بشأن سياسات الأمن الغذائي.

وستساعد المنصة على دفع عجلة الاستجابة في إطار جميع الجهود المبذولة لإعطاء الأولوية للفئات الأكثر احتياجاً، والحفاظ على استمرارية نقل المواد الغذائية والاستثمار في المستقبل. كما تساعد البيانات الدقيقة عن الأمن الغذائي والتمويل في البلدان المعنية في تدعيم شبكات الأمان للأسر الأكثر احتياجاً وضمان تمتع برنامج الأغذية العالمي بالموارد الكافية، ومساعدة البلدان الأكثر احتياجاً وتضرراً على تغطية تكلفة الزيادات في فواتير الواردات الغذائية.

إن معالجة الأسباب الجذرية لأزمات الغذاء باتت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى بدلاً من مجرد الاستجابة لها بعد حدوثها ، وأصبح التحرك السريع في هذا الشأن غاية في الأهمية. ولكن على الرغم من الالتزام القوي من المجتمع الدولي في هذا الصدد، هناك تحديات كبيرة أمام رصد ومتابعة شدة الأزمة ومستوى التمويل المتاح، مما يعوق الجهود الرامية إلى التوفيق بين الحلول الهادفة إلى تحسين الأمن الغذائي على المدى الطويل والبيانات المطلوبة أولاً بأول للمساعدة في متابعة محركات أزمة الغذاء، فهي ليست متوفرة بالقدر نفسه من المساواة على مستوى الدول. كما أنه من الضروري وجود عدد كبير من المؤشرات لرصد ومتابعة المجموعة الكاملة من العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى الأزمة، وهو أمر بالغ الأهمية لإثراء أنظمة الإنذار المبكر بالمعلومات اللازمة. وفي حين يشارك في أنشطة التمويل والاستجابة العديد من الشركاء الذين يقومون بأعمال المتابعة والتصنيف ورفع التقارير ، إلا أن هذا التشرذم يؤدي إلى صعوبة الوقوف على التمويل الذي تمت تعبئته، والأنشطة التي يجري تنظيمها، وإذا توفرت هذه المعلومات سنتمكن من استخدام التمويل بمزيد من الفعالية، والوصول إلى من هم في أشد الحاجة إلى المساعدة في الوقت المناسب وبطريقة مؤثرة.

ويمكن لهذه التوصيات والرؤى المستقبلية والحكمة الجيدة، إذا ما أخذت على محمل الجد، أن تعيد العالم إلى المسار الصحيح باتجاه بلوغ هدف القضاء على الجوع وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية بجميع أشكاله وتحقيقاً لهذه الغاية ينبغي علينا بذل الجهود العالمية الجماعية لتقوية قدرة القطاع الزراعي والحيواني على مكافحة التأثيرات الضارة الناتجة عن تغير المناخ، بما يحقق الأمن الغذائي العالمي في نهاية المطاف، ووضع حافظات شاملة من السياسات والاستثمارات والتشريعات المطلوبة لتحويل النظم الغذائية من أجل ضمان الأمن الغذائي وتحسين التغذية وتوفير أنماط غذائية صحية ميسورة الكلفة للجميع. وكذلك تقديم المساعدة الفورية لإنقاذ الأرواح وتجنب المجاعة من خلال الاستمرار في مساعدة البلدان الشريكة في الانتقال إلى أنظمة غذائية زراعية مستدامة وسلاسل توريد مرنة.

علاوة على ذلك، تعزيز التغييرات الهيكلية في طريقة توزيع التمويل الخارجي بحيث يمكن تقليل الاعتماد على المساعدة الانسانية بمرور الوقت من خلال استثمارات إنمائية طويلة الأجل، وقد يساهم ذلك في معالجة الأسباب الجذرية للجوع من خلال طرق أكثر كفاءة واستدامة. فضلا عن دعوة البرلمانات والحكومات إلى تبني سياسات من شأنها تحقيق عوائد متزايدة على صعيد محاربة الجوع وسوء التغذية بجميع أشكاله، مع تقليل القيود المختلفة التي تفرضها بعض البلدان على تجارة الأغذية. وكذا تحديد الإجراءات والحلول للمساعدة في معالجة قضية الأمن الغذائي العالمي، بما في ذلك الانتقال إلى الزراعة المستدامة لتقليل الآثار على المناخ والبيئة، وضمان أن تكون الزراعة والأنظمة الغذائية أكثر مرونة في مواجهة الصدمات الاقتصادية والتجارية والسياسية. من الهام أيضا تحقيق سلاسل إمداد غذائية أكثر استدامة للحد من الآثار السلبية التي تتسبب فيها الزراعة غير المستدامة، فضلاً عن أهمية العمل طويل الأجل، ودعم المزارعين والمجتمعات الريفية لضمان استمرار توفير الغذاء لعدد السكان المتزايد بشكل مستمر. وكذا توطين الصناعات المختلفة وتوفير المستلزمات الخاصة بالأعلاف ودعم رواد الأعمال من المزارعين ومشروعات الزراعة الذكية مناخيا أيضا من الأهمية بمكان توقع الأزمات من خلال أنظمة الإنذار المبكر الفوري والعمل السريع لدى توقع حدوث تدهور ، فضلاً عن تعزيز شبكات الضمان الاجتماعي ليلجأ إليها الناس وقت الأزمات. يضاف إلى ذلك عدم إغفال الدعوة إلى التزام سياسي وتمويل كاف للتصدي للعبء الثقيل للتغير المناخي الواقع على الفئات الأكثر ضعفاً،  وتحسين سبل عيشهم ودعم مجتمعاتهم ليكونوا قادرين على مواجهة الأزمات المحتملة، مع التأكيد على أهمية تعاون الدول معاً لتسخير قوة الطبيعة وتأمين الغذاء في الوقت الحالي وللأجيال القادمة.

وفي النهاية لابد من الوصول إلى نتيجة فعلية وهي حتمية وصول الغذاء للجميع وفي كل الأوقات وعلى اختلاف الأماكن الجغرافية، وكذلك العمل على إتاحة الغذاء من خلال مصادر كافية لكي يحصل الجميع على غذاء صحي وأمن يحقق احتياجاتهم. إن الجهد المنسق على مستوى البرلمانات والحكومات والمؤسسات المالية والقطاع الخاص والشركاء هو السبيل الوحيد للتخفيف من حدة الأزمة وضمان الأمن الغذائي ومن ثم فعلينا الآن التكاتف معاً لإنقاذ الأرواح والاستثمار في الحلول التي تضمن الأمن الغذائي والاستقرار والسلام للجميع.  

التعليقات