يعد ملف ضمان الأمن الغذائي من التحديات الرئيسية في العالم، و القضايا المحورية التي اهتم بها العالم ولقد تم إدراجه ضمن أهداف التنمية المستدامة ۲۰۳۰ حيث أنه يتعلق بالهدف الثاني المعني بالقضاء على الجوع , فالأمن الغذائي هو مفهوم شامل يشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والسياسية، التي تتناول جميع الأبعاد الأربعة للأمن الغذائي ( التوافر، الوصول، الاستفادة، والاستقرار) .
أولاً: الفجوة الغذائية وأبعاد مشكلة الأمن الغذائي :
تعد مخاوف انعدام الأمن الغذائي في العالم قديمة، ويتحقق الأمن الغذائي عندما يتاح لجميع السكان، في جميع الأوقات، الحصول على مصادر غذاء كافية ومأمونة ومحققة للفوائد الغذائية. ويستند مؤشر الأمن الغذائي العالمي على ثلاثة معايير رئيسية مرتبطة بالأمن الغذائي وهي؛ القدرة على تحمل التكاليف، وتوافر الغذاء، وجودة وسلامة الغذاء. وتزداد مشكلة الأمن الغذائى بسبب الأوبئة ناهيك عن ارتفاع وتيرة التغير المناخى أو الظروف الجيوسياسية؛ وهو ما حدث بالفعل جراء جائحة كورونا، واندلاع الحرب الأوكرانية حيث أبرزت الحرب فعلاً الطبيعة المتشابكة والهشة للنظم الغذائية حول العالم الأمر الذي كان له انعكاسات خطيرة على الأمن الغذائي. وتعد الدول التي تعاني بالفعل من مستويات مرتفعة من الجوع الحاد عرضة بطريقة خاصة للمخاطر الناجمة عن الأوضاع الكارثية لتغير المناخ أو النزاعات والصراعات والحروب، خاصة مع اعتمادها بشكل هائل على واردات الغذاء ومدخلات الإنتاج الزراعية ومواجهتها لأزمات ارتفاع أسعار الغذاء العالمي. وتشير التوقعات إلى أن أكثر تداعيات الحرب في أوكرانيا دماراً ستطال الدول التي تعاني بالفعل من أزمات غذائية وتلك التي باتت على شفا المجاعة، لا سيما فيما يتعلق بأسواق السلع الأساسية التي بلغت الأسعار فيها أعلى مستوياتها على الإطلاق. وكذلك أرتفاع معدلات النمو السكانى وقام التقرير السنوي الذي تطلقه الشبكة العالمية لمكافحة الأزمات العالمية وهي تحالف دولي يضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والجهات الحكومية وغير الحكومية التي تعمل على معالجة الأزمات الغذائية معاً، والذي يدعو إلى حشد المجتمع الدولي بكشف النقاب عن استمرار ارتفاع عدد الأشخاص الذين يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد ويحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة منقذة للحياة ودعم سبل العيش وذلك بمعدل ينذر بالخطر، وركز التقرير على البلدان والأقاليم التي يتجاوز فيها حجم وشدة أزمة الغذاء الموارد والقدرات المحلية للدول.
ثانياً: التحديات التي تواجه البرلمانات والحكومات في مواجهة ظاهرة انعدام الأمن الغذائي :
يتعين على البرلمانات والحكومات التصدى للتحديات الهيكلية التي تضع العراقيل أمام الجهود الرامية إلى توفير الغذاء لسكانها الذين يتزايد ون بمعدلات سريعة. وتتمثل أولى هذه التحديات في تغيّر المناخ، حيث تؤثر الزيادة في وتيرة التقلبات المناخية وشدتها وارتفاع درجات الحرارة في أنشطة الزراعة المحلية؛ فالعديد من المناطق تعاني بالفعل من شح الموارد المائية. فضلاً عن ذلك، فقد شهد عام ۲۰۲۰ إحدى أسوأ موجات انتشار الجراد الصحراوي في أكثر من ۲۳ بلداً مما أثر على سبل كسب عيش ملايين الأشخاص وأمنهم الغذائي. أما التحدي الثاني في ظل التوقعات الحالية بارتفاع عدد السكان إلى نحو ٩،٧ مليار نسمة في عام 2050 من المتوقع أن ينخفض متوسط نصيب الفرد من إمدادات المياه المتاحة إلى النصف وبخاصة في الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية الذي سيواجه معدل نمو سكاني هو الأعلى على مستوى العالم، وكذلك نمو المناطق الحضرية، حيث يتوقع أن يعيش ٢،٥ مليار شخص في المناطق الحضرية بحلول عام ٢٠٥٠ ، ولا تواكب معدلات الإنتاجية الزراعية الزيادة السكانية نفسها. ويتمثل التحدي الثالث في النظام الغذائي والتغذية؛ إذ تعتمد الكثير من البلدان اعتماداً أساسياً على الواردات الغذائية، لاسيما القمح والحبوب الأساسية الأخرى، وتستورد نصف احتياجاتها الغذائية من الخارج، وقد تأثر ذلك بشكل كبير بعد حرب روسيا وأوكرانيا. وقد انعكست تلك الظروف العالمية على الأوضاع المحلية بالدول المختلفة؛ فارتفعت أسعار الغذاء المحلية في مختلف أنحاء العالم، ووفقا للبنك الدولي فإن بيانات تضخم أسعار المواد الغذائية أشارت إلى ارتفاع معدلات التضخم في جميع البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل تقريبا.
ثالثاً الجهود الدولية لضمان الأمن الغذائي العالمي :
لقد سلطت أغلب التقارير الدولية المتعلقة بالأمن الغذائي الضوء على الاستراتيجيات واسعة النطاق للابتكار الزراعي وانتاج الغذاء، وقدمت تفاصيل عن تحديات الأمن الغذائي الكبيرة التي واجهتها منذ فترة طويلة، مثل ندرة المياه، ونقص التربة الصالحة للزراعة والتي تفاقمت بسبب تغير المناخ وتأخذ تلك التقارير في الاعتبار أيضاً التأثير الإضافي للاضطرابات في سلاسل التوريد العالمية الناجمة عن وباء كورونا والحرب الأوكرانية، مما زاد من حاجة الدول إلى مواصلة الاستثمار في الطاقة الإنتاجية المحلية وحلول التكنولوجيا الزراعية، بحيث يمكن أن تكون الأنظمة الزراعية والغذائية المحلية قاطرة للنمو الاقتصادي. وكذلك الاهتمام بمجال الابتكار الزراعي من خلال الاستثمار في أحدث الممارسات والتكنولوجيات المراعية للظروف المناخية المتغيرة،(الرقمية الزراعية) مثل الزراعة المائية وأساليب الزراعة المستدامة للحفاظ على الموارد.
ويأتي دور لوحة البيانات الجديدة للأمن الغذائي العالمي؛ كونها منصة متاحة للجمهور العام تتيح أحدث البيانات عن شدة الأزمات الغذائية، وتمويل الأمن الغذائي العالمي، والبحوث والتحليلات للنهوض بسياسات الأمن الغذائي على مستوى البلدان، وتم إعداد هذه المنصة بالتعاون مع مجموعة واسعة من الشركاء تحت مظلة التحالف العالمي للأمن الغذائي الذي تم إطلاقه في مايو ۲۰۲۲ ، وتهدف إلى خفض تكاليف المعاملات، وتحسين الشفافية، وتسريع وتيرة التحليلات، وتمكين الحكومات وفرق العمل في البلدان المعنية من اتخاذ خطوات أفضل على أرض الواقع. ويمكن أن تساعد أيضاً في تسريع وتيرة التمويل من خلال تسليط الضوء على الاحتياجات التمويلية وفجوات التمويل. والهدف من ذلك تحقيق استجابة عالمية منسقة وواعية لأزمة الغذاء، مع المساعدة في الوقت ذاته على النهوض بالعمل التحليلي المعني بالأمن الغذائي على المدى المتوسط والطويل. وقد قدم البنك الدولي نحو ٣٠ مليار دولار على مدى ١٥ شهراً انتهت في سبتمبر ۲۰۲۳ في إطار استجابة عالمية شاملة لأزمة الغذاء.
وبينما كثف المجتمع الدولي الدعوات إلى اتخاذ إجراءات عاجلة للوقاية من المجاعة والتخفيف من حدتها وحشد الموارد لمعالجة الأسباب الجذرية التي تقف وراء أزمة الغذاء بشكل فعال إلا أنه لايزال يجد صعوبة في تلبية الاحتياجات المتزايدة، الأمر الذي أظهر الحاجة إلى معالجة جماعية لانعدام الأمن الغذائي الحاد على المستوى العالمي عبر السياقات الإنسانية والتنموية وإحلال السلام.
رابعاً: الجهود البرلمانية لضمان الأمن الغذائي العالمي :
قطعت البرلمانات شوطاً طويلاً في صياغة التشريعات والقوانين لضمان حرية السوق، بما يحد من مختلف صور الاحتكار، وكذلك تقديم الدعم للمستحقين وفق آلية تضمن وصوله إليهم دون غيرهم. ويرتبط بذلك ويكمله القوانين الخاصة بمراقبة أسعار المواد الغذائية المعروضة في السوق، والعمل على استقرارها. وبشأن مأمونية الغذاء؛ أي سلامته وصلاحيته للاستهلاك البشري قامت بإنشاء الأجهزة المختصة، وأولها بطبيعة الحال جهاز المواصفات والمقاييس الذي يتولى تحديد مواصفات السلامة والصلاحية، ويتم بموجبه وضع مواصفات إجبارية وقواعد فنية ملزمة لكل مادة غذائية لضمان سلامتها وصلاحيتها وتتولى بعد ذلك الأجهزة الرقابية، كل في مجاله، مراقبة التزام السلع المعروضة في السوق بالقواعد الفنية. وعلى الرغم من استجابة الدول لأزمة الغذاء العالمية بشكل فاعل في الأجل القصير، فإنها تحتاج إلى استكمال تدخلاتها الفورية بتدابير مستدامة تهدف إلى إعادة هيكلة سلاسل الإمدادات الغذائية وحماية الواردات الغذائية من الصدمات المحتملة في المستقبل. وذلك من خلال عدد من السياسات والاجراءات منها ما يلي: -
• اتخاذ اجراءات على نطاق واسع للتحرك نحو نهج متكاملة للوقاية والتنبؤ لمعالجة الأسباب الجذرية لهذه الأزمات، بما في ذلك الفقر الريفي الهيكلي، والنظم الغذائية الهشة، والنمو السكاني، والتأكيد على أهمية المبادرات الإنسانية والإنمائية ومبادرات السلام لتوفير الاحتياجات العاجلة التي تعد جوهرية بجانب الاستثمار في بناء القدرة على الصمود. فضلاً عن العمل المشترك من قبل البرلمانات والحكومات الوطنية والمنظمات المحلية ووكالات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية وحتى القطاع الخاص لإحداث تغيير فى أنظمة الأغذية الزراعية لتكون أكثر شمولاً ومرونة واستدامة.
• توقع الأزمات من خلال أنظمة الإنذار المبكر الفوري والعمل السريع لدى توقع حدوث تدهور، فضلاً عن تعزيز شبكات الضمان الاجتماعي ليلجأ إليها الناس وقت الأزمات. وكذلك تسليط الضوء على أنواع السياسات وحافظات الاستثمار المطلوبة لتحويل النظم الغذائية من أجل ضمان الأمن الغذائي وتحسين التغذية وتوفير أنماط غذائية صحية ميسورة الكلفة للجميع.
• تنفيذ الممارسات الزراعية الرائدة المستخدمة بالفعل في أماكن أخرى، وصولاً إلى زيادة إنتاجية المزارعين بشكل كبير. وتشمل هذه الممارسات المحاصيل المعدلة وراثياً، والزراعة الصحراوية، والزراعة بمياه البحر، والزراعة الحضرية والزراعة الدقيقة التي تستخدم البيانات والتكنولوجيا لزيادة الغلال، مع ضرورة تكثيف جهود الإرشاد الزراعي عن طريق قيام مراكز البحوث الزراعية بتوعية المزارعين بأهمية مقاومة الآفات والأمراض التي تصيب الحبوب، ومساعدتهم في الحصول على المبيدات غير الضارة بالبيئة اللازمة لذلك.
• تعزيز سلاسل التوريد لتصبح الإمدادات الغذائية أكثر قدرة على الصمود ، وتهيئة دول العالم لأي اضطرابات في المستقبل. ويمكن على سبيل المثال أن تقوم الحكومات بمساعدة المنتجين والمستهلكين على تعزيز الاستفادة من منصات الإنترنت والأسواق الإلكترونية، حيث تساعد هذه الأدوات الرقمية في إدارة مخاطر سلاسل الإمداد، وتحديد نقاط الضعف في سلسلة القيمة، وإعداد برامج توعية للمستهلكين لتقليل إهدار الطعام.
• ضمان استقرار الواردات بحيث يمكن للحكومات إدخال قنوات استيراد جديدة لجلب الموارد الحيوية إلى سلسلة القيمة الزراعية، ويمكنها أيضاً تبسيط إجراءات مراقبة الحدود لإدخال البضائع بشكل أسرع، ومن ذلك، تقليل عمليات التفتيش على الحدود والجمارك للشحن الزراعي، واعتماد الشهادات الإلكترونية للأغذية المستوردة بدلاً من طلب الوثائق المادية.
• إنشاء كيان انتقالي شبه حكومي في صورة شركة عامة؛ وقد طبقت عدد من الدول هذا النهج مثل الهند وإندونيسيا والمكسيك وكوريا الجنوبية وتونس، وعلى المدى المتوسط يمكن للكيان شبه الحكومي تشجيع المزارعين على الاستفادة من التقنيات المبتكرة لزيادة الإنتاج المحلي، مثل الزراعة المائية ( طريقة للزراعة من دون تربة والزراعة الصحراوية، والزراعة بمياه البحر. ويمكن أن تساعد أيضاً في تطوير قدرات الاستيراد للقطاع الخاص والاستفادة من قدرات منظمة الأغذية والزراعة من خلال عملها مع الحكومات والسكان المتضررين وأصحاب المصلحة على :
• المستوى الوطني والإقليمي والعالمي لمعالجة مختلف أبعاد الأزمة الغذائية.
• عدم إغفال الدعوة المعززة بالتزام سياسي وتمويل كاف، للتصدي للعبء الثقيل للتغير المناخي الواقع على الفئات الأكثر ضعفاً، ويعني ذلك ضخ استثمارات هائلة في بناء قدرة الدول على الصمود ليكونوا قادرين على مواجهة الأزمات الحتمية من . جراء التغيرات المناخية.
الحلقة القادمة: معالجة الأسباب الجذرية لأزمات الغذاء
التعليقات