تتضارب الآراء فيما إذا كانت أحداث التاريخ تتكرر، فقد قال ماركس: «التاريخ يعيد نفسه مرتين، الأولى كمأساة والثانية كمهزلة» بينما يرى مارك توين أن «التاريخ قد لا يعيد نفسه ولكنه يتشابه كثيرا» وهناك فريق ثالث يرى أن التاريخ لا يتكرر، وإنما نحن نكرر التاريخ عندما نفشل فى التعلم من الماضى!

وإذا طبقنا ذلك على المشهد الراهن بغزة وبقية فلسطين باعتبارها أخر حالة استعمارية بالعالم، سنجد ان المقولات الثلاث تتلاقى فى تكرار الإبادة الجماعية التى قامت بها الكثير من القوى الاستعمارية، والتى تتم حاليا ضد الشعب الفلسطينى أمام بصر الجميع، ونكتشف أن التاريخ يتكرر مرات عديدة: مرة كمأساة تماثل ما فعله الاستعمار فى إفريقيا وآسيا والغرب فى الهنود الحمر بأمريكا. بل إن هذه الإبادة الجماعية للشعب الفلسطينى تستخدم نفس الذرائع التى فعلها الاستعمار بالأمس ومنها (حق الدفاع عن النفس) ومواجهة (المخربين) الذى توجه لهم تهم جاهزة ومكررة مثل مهاجمة المحتلين، أو التعصب الدينى (بالأمس) الذى أصبح اليوم يوصف بالإرهاب فى خلط متعمد بين المقاومة المشروعة والإرهاب المجرم.

فمنذ الاستعمار البرتغالى والإسبانى، مرورا بالاستعمار البريطانى والفرنسى، وانتهاء بالاحتلال الإسرائيلى يجرم الاحتلال كل من يقاومه ويصفه بالمخربين، فقد صاغ البابا ألكسندر السادس عام 1493، عقيدة الاستكشاف و«الأرض المحرمة» التى أعطت للمحتلين الغربيين الحق فى الأراضى التى يعدونها استحواذاً خاصاً بهم. وهكذا اعتبرت الدول التى خضعت للاستعمار، أراضى محرمة على سكانها الأصليين، واستُبيحت «بالقانون» أرواح وأملاك أهلها، واعتبروا هؤلاء «السكان الأصليين» غير جديرين بإدارة شئونهم، بل لا بد من تدمير ـ«ثقافتهم الهمجية»! على حد وصف الاستعمار، فمثلا حين قاتل السكان الأصليون عدداً من المستعمرين الإسبان فى أمريكا اللاتينية، كان المستعمرون يصرخون: «إنهم يهاجموننا، ولدينا (الحق فى الدفاع عن أنفسنا)» وحدث ذلك فى الجزائر على يد المحتلين الفرنسيين ويحدث اليوم فى فلسطين على يد الاحتلال الإسرائيلى. ومنذ 1492 أصدر ملوك إسبانيا قوانين «encomienda» وبعدها صدرت لوائح «كارتا ريجيا» البرتغالية عام 1680، لتبرير وتنظيم استعباد السكان الأصليين فى أمريكا اللاتينية، فضلا عن اللوائح الدينية للمستعمرين، لفرض عقيدة «التحضر» التى نفذ بموجبها ملك بلجيكا ليوبولد الثانى فظائعه فى الكونغو. وحدث ذات الجرائم ضد الأمريكيين الأصليين، خلال الغزو الأوروبى لأمريكا الشمالية، كما قام بها المحتلون البريطانيون فى آسيا والهند، والفرنسيون فى شمال إفريقيا، والإيطاليون فى ليبيا، والهولنديون فى إندونيسيا، وجميع هذه الجرائم الاستعمارية كانت تتم تحت غطاء قانونى ولاهوتى وأخلاقى، وهو «حق الدفاع عن النفس» لدول الاحتلال وهو نفس الذريعة التى تستخدمها إسرائيل اليوم لتبرير جرائمها فى غزة وبقية فلسطين.

ويتكرر التاريخ فى المرة الثانية كمهزلة ومنها أن الدولة التى صاغ رئيسها مبدأ حق تقرير المصير- نسب هذا المصطلح للرئيس الأمريكى ويلسون- هى نفسها الذى يشارك رئيسها الحالى (بايدن) وحكومتها فى قتال المقاومة الفلسطينية التى تطالب بحقها فى التحرر الوطني! ومن هذه المهزلة أيضا ان الذين صدعوا العالم بوجوب مواجهة الاحتلال الروسى وجرائمه فى أوكرانيا، يدافعون عن الاحتلال الإسرائيلى وجرائمه فى فلسطين!!

ويكرر التاريخ نفسه مرة ثالثة لأننا فشلنا فى التعلم منه، وخير مثال على ذلك، ما حدث ضد حركة التحرر الوطنى، فى ناميبيا، حيث قضى الاحتلال الألمانى على ثلث السكان، فقد تمت محاصرة القبائل بمنطقة ووتربيرج، وإغلاق جميع الطرق حتى لا يهرب «المخرّبون» كما وصفهم الاحتلال، ثم بدأت الإبادة الجماعية لقبائل «الهيريرو» وقبائل «الناما» بكامل قوتها خلال أغسطس 1905. فلو أنه تمت محاسبة الألمان الذين ارتكبوا جرائم الإبادة الجماعية فى ناميبيا، لما تكررت هذه الإبادة مرة ثانية فى ألمانيا ذاتها ضد اليهود. ولما كررها اليهود مرة ثالثة ضد الفلسطينيين. ولم نتعلم أيضا من التاريخ القريب فلو تمت محاسبة جورج بوش وتونى بلير على جرائهم فى العراق لما كرر بايدن ونيتانياهو جرائمهما فى غزة. إن إقامة متحف للهولوكوست الفلسطينى المفتوح والمجازر الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، ومحاسبة مرتكبى الجرائم والمذابح فى فلسطين ومن دعمهم، ضرورة لازمة حتى لا تتكرر الإبادة الجماعية، ربما فى تاريخ أحدث وعلى جغرافيا أقرب!