وزير الأوقاف المصري: مصيرنا مشترك مع السودان

قال الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف في الجلسة الافتتاحية العلمية بالمؤتمر الدولي الذي عقد بالخرطوم السبت ٢٤ أكتوبر ٢٠٢٠ م تحت عنوان " الإسلام والتجديد بين الأصل والعصر"، بحضور كل من:     

سيادة الفريق/ محمد حمدان دقلو نائب رئيس المجلس السيادي

السيد/ نصر الدين مفرح أحمد وزير الشؤون الدينية والأوقاف بالسودان

الدكتور/ عبدالرحيم آدم محمد رئيس مجمع الفقه الإسلامي بالسودان

السيد/ الزبير محمد على  مدير مركز الرعاية والتحصين الفكري

سيادة السفير/ حسام عيسى سفير مصر بالسودان

ولفيف من السادة الوزراء والسفراء وأساتذة الجامعات والعلماء والتنفيذيين وقيادات المجلس السيادي بالسودان الشقيق ونحو خمسمائة عالم وباحث ومفكر وأكاديمي وإعلامي ، ولفيف من الشخصيات الدينية والعامة.

أكد معاليه أن الوطن والحفاظ عليه  أحد أهم الكليات الست التي يجب الحفاظ عليها والتي أحاطها الشرع الشريف بعناية بالغة وعمل  على صيانتها ، وهي : الدين ، والوطن ، والنفس ، والعرض ، والمال ،  والعقل ، والنسل ، فقد أجمع الفقهاء قديما وحديثا على أنه إذا دخل العدو بلدا من بلاد المسلمين وجب على أهل هذه البلدة أن يهبوا جميعا للدفاع عن وطنهم  ولو فنوا جميعا في سبيل ذلك ، ومن قتل منهم في سبيل ذلك فهو شهيد ، ولَم يقل أحد على الإطلاق : إنهم إذا غلبهم العدو  وخشوا على أنفسهم من الهلاك فروا من الهلاك ونجوا بأنفسهم لينشروا الدين في مكان آخر ، فالدين لا ينشأ في الهواء الطلق ، إذ لابد له من وطن يحمله ويحميه ، فالمشردون  لا يقيمون دينا ولا دولة ، ولن يحترم الناس ديننا ما لم نتفوق في أمور دنيانا ، فإن تفوقنا في أمور دنيانا احترم الناس ديننا ودنيانا ، فدورنا هو عمارة الدنيا بالدِّين وليس تخريبها ولا تدميرها باسم الدين ، فالأديان كلها رحمة ، وحيث تكون المصلحة المعتبرة للبلاد والعباد فثمة شرع الله الحنيف.

ونؤكد أن مصالح الأوطان من صميم مقاصد الأديان ، فكل ما يؤدي إلى قوة الدولة والحفاظ عليها وعلى تماسك بنائها ورقيها وتقدمها هو من صميم مقاصد الأديان ومراميها وغاياتها ، وكل ما يؤدي إلى النيل من الوطن أو زعزعة أمنه أو استقراره لا علاقة له بالأديان ولا علاقة للأديان به ، وكل الأديان منه براء .

وقد قالوا : رجل فقير في دولة غنية قوية خير من رجل غني في دولة فقيرة ضعيفة ؛ لأن الأول له وطن يحمله ويحميه والآخر لا سند له في الداخل ولا في الخارج ، ولله در شوقي حيث يقول : لَنا وَطَنٌ بِأَنفُسِنا نَقيهِ وَبِالدُنيا العَريضَةِ نَفتَديهِ إِذا ما سيلَتِ الأَرواحُ فيهِ بَذَلناها كَأَن لَم نُعطِ شَيّا نَقومُ عَلى البِنايَةِ مُحسِنينا وَنَعهَدُ بِالتَمامِ إِلى بَنينا إِلَيكِ نَموتُ مِصرُ كَما حَيينا وَيَبقى وَجهُكِ المَفدِيُّ حَيّا ويقول: وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ  يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ بِلادٌ ماتَ فِتيَتُها لِتَحيا وَزالوا دونَ قَومِهِمُ لِيَبقوا نَصَحتُ وَنَحنُ مُختَلِفونَ دارًا وَلَكِن كُلُّنا في الهَمِّ شَرقُ وَيَجمَعُنا إِذا اختَلَفَت بِلادٌ بَيانٌ غَيرُ مُختَلِفٍ وَنُطقُ ويقول أحمد محرم : مَن يُسعِدُ الأَوطانَ غَيرُ بَنيها وَيُنيلُها الآمالَ غَيرُ ذَويها لَيسَ الكَريمُ بِمَن يَرى أَوطانَهُ نَهبَ العَوادي ثُمَّ لا يَحميها تَرجو بِنَجدَتِهِ اِنقِضاءَ شَقائِها وَهوَ الَّذي بِقُعودِهِ يُشقيها وَتَوَدُّ جاهِدَةً بِهِ دَفعَ الأَذى عَن نَفسِها وَهوَ الَّذي يُؤذيها وَلَقَلَّما أَرضى اِمرُؤٌ أَوطانَهُ حَتّى تَراهُ بِنَفسِهِ يَفديها

فما بالكم إذا كان ما يجمعنا هو التاريخ والجغرافيا والدين واللغة والمصير المشترك. 

أما فيما يتصل بقضية  التجديد بين الأصل والعصر  فأؤكد أن هذا الموضوع شديد الاتزان والتوازن بين الحفاظ على الثوابت وفهم طبيعة المتغيرات ، فإنزال الثابت منزلة المتغير هدم للثوابت ، وإنزال المتغير منزلة الثابت طريق الجمود والتشدد والتطرف ، مع تأكيدنا أننا لن نستطيع أن نقضي على التشدد والتطرف ونقتلعه من جذوره إلا إذا واجهنا الانحراف والتسيب بنفس القوة والحزم ، فما أمر الله (عز وجل) بأمر في الإسلام إلا حاول الشيطان أن يأتيك من إحدى جهتين لا يبالي أيهما أصاب الإفراط أو التفريط ، غاية ما في الأمر أننا في حاجة ملحة إلى إعمال العقل في فهم صحيح النص ، وعدم الوقوف عند آليات الحفظ والتلقين بالتحول إلى آليات الفهم والتحليل ، يقول ابن القيم (رحمه الله) : وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِمُجَرَّدِ الْمَنْقُولِ فِي الْكُتُبِ عَلَى اخْتِلَافِ عُرْفِهِمْ وَعَوَائِدِهِمْ وَأَزْمِنَتِهِمْ وَأَمْكِنَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ وَقَرَائِنِ أَحْوَالِهِمْ فَقَدْ ضَلَّ وَأَضَلَّ.

ويقول الإمام القرافي (رحمه الله) : إن إِجراءَ الأحكام التي مُدْرَكُها العوائدُ مع تغيُّرِ تلك العوائد فهو خلافُ الإِجماع وجهالةٌ في الدّين ... بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إِلى بلَدٍ آخر، عوائدُهم على خلافِ عادةِ البلد الذي كنا فيه أفتيناهم بعادةِ بلدهم، ولم نعتبر عادةَ البلد الذي كنا فيه، وكذلك إِذا قَدِمَ علينا أحدٌ من بلدِ عادَتُه مُضَادَّةٌ للبلد الذي نحن فيه لم نُفتِه إِلَّا بعادةِ بلدِه دون عادةِ بلدنا.

لقد فتح الإسلام باب الاجتهاد واسعا حتى في عهد سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفي حياته ، يتجلى ذلك عندما بعث سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سيدنا معاذ بن جبل (رضي الله عنه) إلى اليمن وقال له بم تحكم ؟ قال بكتاب الله ، قال فإن لم تجد، فقال بسنة رسول الله، فقال فإن لم تجد، قال أجتهد رأيي ولا آلو، فقال الرسول (عليه الصلاة والسلام) : الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه ويرضاه.

هذا على عهد سيدنا رسول الله وفي حياته ولم ينكر سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على سيدنا معاذ بن جبل (رضي الله عنه) بل أقره عليه ، وقال الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضى الله ورسوله ، وهو ما صار عليه الصحابة الكرام .

وإذا أردنا أن نأخذ أنموذجا شديد الوضوح في فهم المقاصد ، فلنقف مع ما كان من سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في فهم طبيعة سهم المؤلفة قلوبهم ، وهم سهم ثابت بنص القرآن الكريم حيث يقول الحق سبحانه : " إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" ، وهذا النص طبقه على أرض الواقع سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بصرف هذا السهم للمؤلفة قلوبهم ، فلما جاء عصر سيدنا أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) واستشار سيدنا عمر بن الخطاب قال سيدنا عمر والله لا نعطيهم ، كنا نعطيهم ونحن قلة مستضعفون وقد أتم الله علينا بفضله ، فلم يعد بنا حاجة إلى تألف هؤلاء، ولا يستطيع أحد أن يقول إن سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قد عطل النص ، وإنما أعمله حيث وجد أهله ، ورأى صرفه إلى غيرهم حيث أصبحوا هم في حكم غير الموجودين ، كما يصرف لهم تحرير الرقاب في المصارف الأخرى ما لم يوجد من يستحقه منهم .

الأنموذج الثاني : هو ما يتصل بتصرفات النبي (صلى الله عليه وسلم) في إدارة الدولة، فنبينا (صلى الله عليه وسلم) لم يكن نبيًّا ورسولاً فحسب ، إنما كان (صلى الله عليه وسلم) نبيًّا ورسولاً وحاكمًا وقائدًا عسكريًّا ، فما تصرف فيه باعتباره نبيًّا ورسولاً فيما يتصل بشئون العقائد والعبادات والقيم والأخلاق وصح نسبته إليه (صلى الله عليه وسلم) أُخذ على النحو الذي بينه (صلى الله عليه وسلم) لأصحابه ، ولا يختلف أمر البيان فيه باختلاف الزمان أو المكان كونه من الأمور الثابتة سواء اتصل بأمر الفرائض كصوم رمضان ، والصلاة ، والزكاة ، والحج ، أم اتصل بأمر السنن الثابتة عنه (صلى الله عليه وسلم) كصوم عرفة أو صوم عاشوراء .

أما ما تصرف فيه النبي (صلى الله عليه وسلم)  بصفته نبيًّا وحاكمًا أو بصفته نبيًّا وقائدًا عسكريًّا ، أو بصفته نبيًّا وقاضيًا ، فهو تصرف باعتبارين : باعتباره (صلى الله عليه وسلم) نبيًّا واعتباره (صلى الله عليه وسلم) حاكمًا أو قائدًا أو قاضيًا .

وإذا أردنا نماذج أكثر قربًا فلنأخذ حديثي السواك ونظافة الفراش ، هل العبرة في السواك بنظافة الفم أم بآلة السواك ، لا شك أن العبرة فيه بما يحقق طهارة الفم ونظافته .

وعَن أَبِي هُرَيرة (رضي الله عنه) عَن النَّبِيّ (صَلَّى الله عَلَيه وَسَلَّم) قال: (إذا قام أحدكم من الليل عن فراشه، ثُمَّ رجع إليه فإنه لا يدري ما خلف فيه بعده فلينفضه بإزاره، أو ببعض إزاره فإذا اضطجع فليقل باسمك وضعت جنبي وبك أرفعه فإن أمسكت نفسي فاغفر لها، وَإن أرسلتها فاحفظها بم تحفظ به عبادك الصالحين).

ولو وقفنا عند ظاهر النص فماذا يصنع من يلبس ثوبًا يصعب الأخذ بطرفه وإماطة الأذى عن مكان النوم به كأن يرتدي لباسًا عصريًّا لا يُمكّنه من ذلك.

ولو نظرنا إلى المقصد الأسمى وهو تنظيف مكان النوم والتأكد من خُلوِّهِ مما يمكن أن يسبب للإنسان أي أذى من حشرة أو نحوها، لأدركنا أن الإنسان يمكن أن يفعل ذلك بأي آلة عصرية تحقق المقصد وتفي بالغرض من منفضة أو مكنسة أو نحوهما، فالعبرة ليست بإمساك طرف الثوب، وإنما بما يتحقق به نظافة المكان والتأكد من خُلوِّهِ مما يمكن أن يسبب الأذى للإنسان؛ بل إن ذلك قد يتحقق بمنفضة أو نحوها أكثر مما يتحقق بطرف الثوب، لكن النبي (صلى الله عليه وسلم) خاطب قومه بما هو من عاداتهم وما هو متيسر في أيامهم حتى لا يشق عليهم في ضوء معطيات ومقومات حياتهم البسيطة، وكأنه (صلى الله عليه وسلم) يقول لهم : نظِّفوا أماكن نومكم قبل أن تأووا إليها بما تيسر ولو بطرف ثيابكم.

وقد علل بعض شراح الحديث التوجيه بالأخذ بطرف الثوب بأنه (صلى الله عليه وسلم) وجَّه بذلك حتى لا تصاب اليد بأذى من آلة حادة أو طرف خشبة مدببة ، أو تراب أو قذاة أو هوام، أو حية أو عقرب أو غيرهما من المؤذيات، أو عود صغير يؤذي النائم وهو لا يشعر، أو نحو ذلك لو عمد الإنسان إلى نظافة مكان نومه بيده، وهو ما يؤكد المعنى الذي ذهبنا إليه.

ومع ذلك فمن شابهت حياته حياتهم فلا حرج عليه إن أخذ بظاهر النص فنظف مكان نومه بطرف ثوبه، غير أن محاولة حمل الناس جميعًا على الأخذ بظاهر النص دون سواه يعد من باب ضيق الأفق في فهم مقصد النص والتعسير على الناس في شئون حياتهم.

ونختم بالحديث عن أمر في غاية الأهمية وهو فلسفة نظام الحكم ، ونؤكد أن الإسلام لم يضع قالبًا جامدًا صامتًا محددًا لنظام الحكم لا يمكن الخروج عنـه ، وإنمـا وضع أسسًـا ومعـايير متى تحققت كان الحكم رشيدًا يُقـرّه الإسلام ، ومتى اختلّت أصـاب الحكم من الخلل والاضطراب بمقـدار اختلالهـا .

ولعل العنوان الأهم الأبرز لنظام أي حكم رشيد هو مدى تحقيقه لمصالح البلاد والعباد ، وعلى أقل تقدير مدى عمله لذلك وسعيه إليه ، فأي حكم يسعى إلى تحقيق مصالح البلاد والعباد - في ضوء معاني العدل والمساواة والحـرية المنضبطـة ، بعيدًا عن الفـوضى والمحسوبيـة وتقديـم الولاء على الكفاءة - فهو حكم رشيد معتبر .

التعليقات