في داخلنا كونٌ آخر 

 في داخلنا كونٌ آخر 

سعد وليد بريدي

كما يمرضُ الجسد تمرضُ النفس.....

مقولة سمعتها زهاء عشرين عاماً خلت ، كانت عصيةٌ على الفهم على الأقل لي شخصيا، ما معنى النفس؟.... ما المقصود بها، أين هي النفسُ وأين مكمنها ومقرها؟ هل هي مرتبطة بالجهاز العصبي شديد التعقيد أم أنها

شيءٌ آخر مغاير تماما لوظيفة هذا الجهاز آنف الذكر....

النفسُ وأهوائها، متقلباتها، مزاجها، نمطها، فحواها، مبتغاها ومقصدها ....

- النفسُ..... وما علاقتها بالروحِ والجسد، وعلاقة الدين بهما معا وبماذا يفسرها الملحدون من لا يؤمنون أصلاً بألوهيةِ من أوجدها واستودعها فينا، أحقاً هي داخلنا أم تحيطنا؟ هل هي مجبولةٌ في عمقنا ومختلطةٌ مع حفنة التراب الذي خلقنا منه أم أنها دخيلة علينا؟ 

- النفسُ.... وما فيها من أسرار بعضها غامض لدرجة اللاوصف، وأحيانا واضحةً بشكلٍ كبير لدرجة تجعل شخص بسيط يقرئها بسهولة من خلال أدله ملموسه فيدرك مدى كينونتها و سهوله تضاريسها....

- النفسُ ... وما الرابط الخفي الذي يربطها بالعقل أو الدماغ أو المخ أو سمهِ ما شئت ، أحقاً هي سيالات عصبيه أم تيارات وهمية أم مجرد أنزيمات تتحكم بالسعادة والفرح والحزن والإكتئاب والضيق والسرور والنشوة

والرغبه والعزوف عن الشيء والكراهية والوعي واللاوعي، هل هي تسبحُ بالدم أم وجودها يقتصر على الجملة العصبيه أم لا هذا ولا ذاك ولربما تكون هي هذا وذاك.

- النفسُ... وإذا ما عرجنا على موقف الدين منها نجدها هي من تُؤنب وتلام وتعذب أو ترتاح و تكافئ وتجزى لها العطائآت أو تقام عليها الحدود، هي من تقودنا للجريمة كإغتصاب طفل أو قتل شخص أو إفشاء رذيلة

فتوصفُ بأنها أمارةً بالسوء وهنا يقال عنها أنها الشيطان، وهي من تحملنا نحو صنعِ الخير ككفالةِ يتيم أو بناء وقف نفعي يعود على الناس وهنا يقال عنها أنها من الملائكة.... مجرد فناء الجسد وموتهُ وتحوله بعد الدفن

لطعام شهي للديدان والحشرات تكون النفس هي الحاضرة أمام هيئة المحكمة المصغرة عبر ملكين مرسلين من الله يأتيان لسؤالها عما فعلتهُ قبل ساعات قليلة بالدنيا، فإما تنال الجزاء الأوفى وإما مطرقة حديدة تغوصُ

فيها سبعون ذراعاً من وقع هول الطرقة....

- النفسُ .... وما رابطها مع الروح أم أنهما معاً أم أنهما متغايريين تماماً كما اليمين والشمال ، ولكل حزبٍ من العلماء والروحانيون والفلاسفة ورجال الدين رأيٌ في ذلك، وكلاً يفتي ويخبر عنها ما توصلت إليهِ أقصى

درجات دراسته والباقي علينا هل نقتنع أم لا.

حينما يداهمكَ الإكتئاب فيمنع حواسك عن العمل وتصبح بلا شهوة ولا لجام ، وتكون قد أضعت حدود أطرافك و كأنك تسبح في محيط وهمي لا شيء فيه سوى اللاشيء واللامعقول! حينها تبحث عن ماهية النفس

وكيف تكون وكيف تعالجها وتمنعها عن المضي قدما نحو التلف الأكيد للجسد الذي يحملها أو لربما هي من تحمله! 

حينما يتمكن الإكتئآب من إخضاع العقل للوهم الغير موجود ويقنعهُ بالشيء الذي لم يحدث ولربما يجعلهُ في صلب هذا الشيء رغم أنه مجرد وهم وشك وظن إلى أن يصبح حقيقة بعدما كان مجرد شيء لا وجود له على الإطلاق .

حينما يجعل الإكتئاب منك مجرد قطعه من لحم بها رئتان ترشفُ الهواءَ شهيقا ثم زفيراً محملاً بتعب عميق جداً وعتيق ولا حل تجدهُ  سوى التوقف الكلي عن هذا التنفس -كما أوهمك اكتئابك بذلك - فيشرع المرء

بالتفكير عن ماهية وأداةِ إنهاء الفصل الأخير من مسرحية إسمها الحياة سواء عبر رشف كأس من السم أو عبر شفرة حادة جداً يقطع بها وريده ظناً منه بأنه سيلج لعالم آخر لربما يكون فيه نهايه لرحلة الألم الأزلي الذي يعيشه.

حينما يتغلغل الإكتئآب بداخل جسم صاحبه فيعيق له أي مفهوم للنجاح فتكون مرحلة لجلد الذات وتعذيبها وتحميلها ما لا طاقة لها به ، هي مجرد اتهامات وكيل هائل من الشتائم تساق للذات أو للأنا التي بداخلنا فتكون

هي المسؤولة عن كمية ومقدار هذا الإحباط الذي تعيشه نفسنا المتصارعة أصلاً مع ذاتها ليكون المرء هو من يسدد بالنهايه فاتورة هذا الصراع عبر عجز جسده ومرض يظهر فيه حقا نتيجة اللون الأسود الحالك الذي

بداخله، حينها لا تسأله عن سبب الجلطه الدماغية التي ألمت به ولا عن السكته القلبية التي داهمته، هي المعركة الطاحنة بداخله هي من عطلت كرهًا وطوعًا وظائف جسده المظلوم أصلاً من صراع النفس بداخله.

حينما تطلب من شخص التوقف عن عصف الذهن والتفكير وتقول له بلسان الناصح الموجه المعلم ، قف عن التفكير بهذا الأمر أو ذاك ودع عنك هذه الأوهام و ائمر عقلك بالتوقف عن هذا الشيء، أرجوك سيدي

الناصح عليك أن تدرك بأنك تطلب شيء يكاد يكون مستحيل كأن تطلب مثلاً من زهرة الياسمين أن تتوقف عن نثر الشذى الجميل وتستبدلهُ برائحة البصل، أو كمن يطلب الذي أمامه تحريك أذنيه للخلف والأمام....

لعمري لو مكث حتى قيام الساعه وهو يجرب هذا لما استطاع لذلك سبيلاً..... بالمحصلة هي هي! نعم كيف تطلب من العقل التوقف عن التفكير وهو أصلاً لا يمتلك زمام ذلك فهذا خارج عن الإرادة تمامًا، وللأسف

يلجأ من أراد إيقاف ذلك لأقراص تعمل على تثبيط هذا العقل وإخماده بالقوة القهريه ليجد نفسه بالنهايه مدمن، فقط لأنهُ أراد لعقله أن يتوقف.

نحن أمام نفس بشرية غريبه جدا وغامضة لأبعد الحدود، وكما أن الكون بحد ذاته معجزة يصعب على العقل البشري تخيلها سواء بحجم هذا الكون أو بعدد مليارات المجرات الذي فيه وحركتها المصطخبة والممتدة

بالإتجاهات الأربعه في كل جزء من الثانية منذ الإنفجار الكوني العظيم قبل خمسة عشر مليار سنة وحتى لحظة قرائتك لهذا الكلام، لنرى بأن أسرار النفس البشرية تضاهي الكون في مجمل كمية الأسرار التي لا

تزال مختبئة والمستعصية عن الفهم والإدراك ، إذاً النفس تساوي و تضارع بما تحتويه من ألغاز هذا الكون الفسيح المترامي الأطراف.

علاج نفسنا المكتئبه لن يكون عبر أوراد أو أذكار أو ما بين دفتي مصحف أو توراة أو كتاب شعوذة وسحر واتصال مع عالم سفلي وعلوي وعمل مدفون في بطن سمكة مدفونة بقاع بحر أو محيط عميق، ولن يكون

بتلاوة أذكار عبر لسان يتلوها أو من يتلوها عليك واضعاً يده على جبينك وهو يتمتم ويقرأ لك عسى أن يفك عنك هذا الإكتئآب أو الضيق الشديد الذي يطوق قلبك وباطنك، لن يكون علاج الإكتئاب بقارورة ماء زمزم

ختم عليها القرآن ثم نفث فيها الشيخ هواء رئته بها وطلب منك أن تشرب هذا الماء أو تستحم به، لن يكون علاج الإكتئاب بمشعوذ يسطر جسدك بالعصا طالبا الجني الذي استلبسك بأن يخرج منك لا بل يكلمهُ ويتحدث

معه ويطلب منه الخروج بإسم الله أو بإسم إبليس نفسه، لن يكون علاج الإكتئاب بأقراص دواء يعمل على زعزعه كهرباء الدماغ بحثاً عن استجداء هرمون السعادة بأن يفرز أكثر و أكثر ليصبح هذا الدماغ عالقا بين

وهم وحقيقه وما بينهما من متشابهات ، لن يكون علاج الإكتئاب بأن تأمر عقلك أن يكف عن ضخ الكمية اللا منتهية من السلبيات لأنه بالحقيقة لن يجيبك ولن يكترث بندائآتك المستمرة له بالتوقف عن التفكير، لن يكون

علاج الإكتئاب بالنظر لوردة أو شجرة أو غابه بأكملها لأنك لن ترى كميه الخضار في فنن الشجر بقدر ما ستكون باحثاً عن الأفاعي والهوام المختبئة في هذه الأفنان والتي تتخذها موطنا لها وتظن بأنها ستلسعك......

لا أستطيع أن أقول بأني فيلسوف أو مشرع أو معالج أو طبيب عنده علاج للإكتئاب لكن فعلاً حينما تغمض عيناكَ قليلا وتمعن بالتفكير تدرك بأن علاج هذا الإكتئاب هو أن تقتنع تماماً بواقعك وبوضعك و بحالتك وبأن

ما أصابك لم يكن ليخطئك و ما أخطأك لم يكن ليصيبك، و بأن الله وحده الذي ابتلاك بهذا الشيء هو  فقط من سيخرجك منه ، أما ما دون ذلك فمجرد أوهام تصيب أحيانا و تخفقُ بالأكثر..... بيد الله هذا الأمر والتعايش

مع هذا الشيء هو الحل الوحيد مع إيمانك بأن الله سيبرئك من ذلك كما ابتلاك، إن أراد هو وحده ذلك والعلم أولا وأخيراً عنده فقط فكما أراد لك الوهن سيبرئك منه فاستجده بالدعاء ولا شيء آخر.

      

التعليقات