أكد رئيس المجلس الدولي للصندوق العالمي للطبيعة أن البشرية تعيش في عصر تمكنت فيه من التحول إلى قوة ذات وجهين في تأثيرها على البيئة، فالبشر يغيرون سطح الكوكب سلباً من خلال استهلاك موارده كما لو كانت غير محدودة، مشدداً على أن أساس الخلل الذي ارتكبه البشر هو استنزاف الثروة بدون معايير لقياس قيمتها الحقيقية وهو ما يجب تغييره فوراً عبر قياس الجدوى الاقتصادية الحقيقية من عمليات الاستنزاف التي نقوم بها تجاه مواردنا قبل أن نصل إلى حالة الندم، وذلك خلال محاضرة شهدها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، مساء اليوم في قصر البطين، بعنوان "إعادة تعريف معنى الثروة لتحقيق الديمومة الاقتصادية"، ألقاها بافان سوخديف رئيس المجلس الدولي للصندوق العالمي للطبيعة. وأرجع بافان سوخديف الأزمات المالية والاقتصادية الكبرى - أزمة ديون أمريكا اللاتينية في أواخر سبعينيات القرن العشرين، وأزمة المدخرات والقروض في أوائل الثمانينيات، وأزمة الديون الآسيوية في الفترة 1997-1998، وأزمة مشتقات الرهن العقاري في سنة 2008- إلى إساءة فهم المخاطر وإساءة إدارة الائتمان، ولكن أحد الأسباب الكامنة وراء مثل هذه الممارسات السيئة كان طيش قطاع البنوك والتمويل فيما يتعلق بالحوافز المقدمة والاستجابة لتوجيهات السياسات والتي لم تكن على اطلاع كافٍ، وقال إنه سيتعين على جميع البلدان حل هذه المشكلة المتفشية المتمثلة في استخدام المنظار الخاطئ في تحقيق التنمية الاقتصادية لمواطنيها.
وأشاد بافان سوخديف بالنموذج الاقتصادي الذي تسعى دولة الإمارات إلى تطبيقه، مشيراً إلى أن اقتصاد الدولة يعد واحدا من أكثر الاقتصادات تنوعاً في منطقة الخليج والمنطقة. وأكد أن أحد أبرز عناصر قوة الاقتصاد الإماراتي تتمثل في خططها الاستراتيجية بعيدة الأمد والتي تعتمد على التركيز على مزيد من التنويع الاقتصادي عبر تعزيز قطاعات التجارة والسياحة، وتحسين التعليم، وزيادة فرص العمل في القطاع الخاص، وهذا يعني أيضاً تقييم أهم المخاطر والفرص المستقبلية والقيام بذلك باستخدام منظور يدرك الأبعاد العديدة للثروة. وقال " يضم الاقتصاد الإماراتي العديد من الصناعات كالصناعات البترولية وقطاع الغاز الطبيعي، والتطوير العقاري، والألمنيوم، والإسمنت، والأسمدة، وإصلاح السفن التجارية، ومواد البناء، والخدمات اللوجستية، والصناعات اليدوية، والمنسوجات، والأغذية والمشروبات، ومصايد الأسماك، وفقط ما نسبته 30 ٪ من الناتج الاقتصادي لدولة الإمارات يأتي من النفط والغاز " مؤكداً أن في تلك الأرقام وعي اقتصادي يؤمن بمفاهيم الديمومة الاقتصادية. وأكد أنه ومن خلال "الرؤية الاقتصادية 2030" لإمارة أبوظبي، اتخذت الحكومة الخطوة الصحيحة في اتجاه استكشاف قطاع الطاقة المتجددة، وخفضت الحكومة دعم الوقود وفرضت ضريبة على المشروبات المحلاة والتبغ، مما يعكس مبدأ "فرض الضرائب على الضار"، وبالإضافة إلى المخاطر، فإن الفرص كثيرة، بما في ذلك الصناعات الأسرع نمواً في دولة الإمارات، أي تجارة التجزئة، وقطاع الضيافة، والرعاية الصحية، والأغذية، والمشروبات، والتسويق والإعلان.
وأوضح أنه لم يعد مستغرباً أن يساهم القطاع الخاص بحصة الأسد في الناتج المحلي الإجمالي لدولة الإمارات حوالي 70.5 % في سنة 2018 . وشدد على أهمية إحداث تحوّل اقتصادي وتبني أنظمة القياس الصحيحة ومواءمة الحوافز والمثبطات لقيادة التغيير نحو اقتصاد دائم، مشيراً إلى أهمية تغيير سلوك القطاع الخاص "المعتاد" الذي يستمر في استنزاف موارد كوكبنا، مما يعرض سبل عيشنا للخطر، ولا يمكن لأيّ منا تحمل عواقب مثل هذا المستقبل. وأشار إلى أن أغلب الأنظمة الحالية تقيس النمو بالناتج المحلي الإجمالي للبلد ونسبة أرباح وخسائر الشركات باعتبارها عوامل حاسمة للنجاح، فيما لا تكترث بالمردود الفعلي للموارد، وهو ما ينذر بحدوث كوارث على المدى البعيد مالم يتم تدارك الأمر فوراً.
وشدد على أن موارد طبيعية كصحة الإنسان، والمعرفة، والمهارات، وثروة الموارد الطبيعية والنظم، وثروة العلاقات القوية والمؤسسات الاجتماعية، سواءً كانت رسمية /الدساتير والقواعد واللوائح أو غير رسمية /الثقافة والتقاليد والثقة يجب أن يعاد النظر في حجمها الحقيقي ومردودها الفعلي بدلاً من الاكتفاء بقياس قاصر ذو بعد واحد هو الثروة المصنّعة، وهو ما يفقدنا التوازن مشبهاً الأمر بمن يحاول أن يوازن نفسه على "كرسي ذي رجل واحدة". وأوضح أن مقاييس اليوم - مثل حسابات الأرباح والخسائر على مستوى الشركة - تقيس فقط التغييرات في رأس المال الخاص لمنتج معين، مع تجاهل جميع الفئات الأخرى، وهذا لا يمكن أن يكون السبيل إلى تحقيق التقدم.
وعاد المحاضر ليستشهد بنتائج الدراسات والأبحاث التي حذرت من هذا الخلل في العقود السابقة دون أن تجد آذاناً صاغية، مشيراً إلى وصف /كينيث بولدينغ/ للنموذج الاقتصادي في الستينيات بأنه "اقتصاد رعاة البقر".. وقد رأى في مقالة كتبها سنة 1966 بعنوان "كوكبنا سفينة فضاء" ضرورة بناء اقتصاد مسؤول و "دائري" أشبه باقتصاد "رائد الفضاء"، والذي يدرك محدودية الموارد من حوله وقبل ذلك بعشرين عاماً. وأضاف: "وضع /جيه سي كومارابا/، وهو اقتصادي يؤمن بأفكار غاندي، مصطلح "اقتصاد الديمومة" /سنة 1945/ ليشير إلى اقتصاد دائري في طبيعته وبالتالي دائم، وقد وجد خمسة أنواع من الاقتصادات في المجتمع، كل منها يحاكي النماذج الموجودة في عالمنا الطبيعي، من بين هذه الاقتصادات الخمس هناك نموذجان استغلاليان، هما: "الاقتصاد الطفيلي" الذي يدمر مصدر المنفعة، و "الاقتصاد المفترس" الذي يستخدم العنف ولكنه يحتفظ بفرائسه .. ورأى /كومارابا/ أن النموذج السائد في زمنه كان مزيجاً من هذين النموذجين الاستغلاليين، ولذلك فقد طالب بالانتقال إلى نموذج مختلف يستمد قوته من ثلاثة أنواع أخرى من اقتصادات الطبيعة، هي: العاملون من أجل المنافع الفردية "اقتصاد المؤسسة" أو المنافع المشتركة "الاقتصاد التشاركي" أو " اقتصاد الخدمة" اللا أناني، والذي يهدف إلى تحقيق المنفعة العامة".
ووفقاً لسوخديف فإن "اقتصاد الديمومة" يعتمد على أن الثروة موجودة في ثلاث مستويات - خاصة ومجتمعية وعامة - وأنه لا يمكن تحقيق رفاهية الإنسان والتعايش السلمي ما لم يتم إيلاء الاهتمام اللازم لجميع الفئات الثلاث واستثمارها .. ويدرك اقتصاد الديمومة كذلك بأن للثروة أشكال عديدة - طبيعية وإنسانية واجتماعية ومنتَجة - وكلها ضرورية للتقدم الاقتصادي .. ومع ذلك، لا يمكن صياغة السياسات الحكومية والاستثمارات التي تستهدف التحسين أو اختبارها دون مقاييس تراعي جميع مستويات الملكية الثلاث وجميع أشكال الثروة الأربعة.
ويعد بافان سوخديف أحد المفكرين الرواد في مجال الاستدامة، وخبير ابتكار وصوت مؤثر بين صانعي السياسات والمؤسسات البيئية الوطنية التي تركز على التنمية المستدامة، ومن خلال عمله مستشاراً خاصاً، ورئيساً لمبادرة الاقتصاد الأخضر التابعة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، ومديراً لدراسة TEEB "اقتصاديات النظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي، وقاد سوخديف تقرير TEEB الرائد وتقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة بعنوان "نحو اقتصاد أخضر". ويشغل سوخديف منصب سفير النوايا الحسنة لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة ولمشروع TEEB ومستشار خاص لدراسة جديدة تحت هذا المشروع تحمل اسم "اقتصاديات النظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي للزراعة والأغذية".
حصل سوخديف في سنة 2011 على زمالة ماكلوسكي من جامعة "ييل"، حيث قام بتدريس دورة الدراسات العليا في "اقتصاديات النظم الإيكولوجية والتنوع البيولوجي"، وألّف كتاب "الشركات سنة 2020"، وهو عبارة عن كتاب وحملة في الوقت ذاته حول الارتقاء بالشركات التجارية لتلائم عالم الغد. وهو يروج لشركات الغد باعتبارها ذات تأثيرات خارجية إيجابية وليست سلبية، حيث يسلط الضوء على أهم أربعة عوامل لتغيير الشركات من أجل الانتقال بها نحو الاقتصاد الأخضر الشامل .. وفي يناير 2018، تم تعيينه رئيساً للمجلس الدولي للصندوق العالمي للطبيعة، والذي يعدّ من أكبر الشبكات العالمية للحفاظ على الطبيعة. حصل على جائزة غوتنبرغ للتنمية المستدامة في سنة 2013 وجائزة الكوكب الأزرق في سنة 2016.
التعليقات