صعيد مصر يحتفل بـ "جميلة بوحيرد".. أيقونة الثورة الجزائرية تعود للمحروسة بعد 56 عامًا

56 عاما تفصل بين الزيارة الأولي للمناضلة الجزائرية، جميلة بوحيرد للقاهرة، في ستينات القرن الماضي، والزيارة الثانية الآن لمصر للمشاركة فى فعاليات مهرجان أسوان الدولى الثانى لسينما المرأة، الذى انطلق باسم المناضلة فى دورته الحالية خلال الفترة من 20 إلى 27 فبراير الجارى، ومازالت زهرة بلد المليون شهيد متفتحة، تحمل رحيق تاريخ لا ينسي لثورة التحرير الجزائرية.

تموج بعقل المناضلة الجزائرية، ذكريات كثيرة عن مصر وشعبها، ففي زيارتها الأولي، وتحديدًا في عام 1962، كان في استقبالها الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي حضر خصيصًا وقتها، لاستقبال وتكريم، رمز نضال الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي.

تمر السنون وتزور"بوحيرت" مصر للمرة الثانية، بدعوة لتكريمها كأيقونة ورمز لكفاح المرأة العربية، وكأن الزمان يعيد نفسه بذات التفاصيل تقريبًا، فكان في استقبالها بالورود عدد من المسؤولين بمطار القاهرة، وأهدت لها مصر للطيران تورته تحمل صورتها وعلم الجزائر، وتم التنويه علي المسافرين علي متن الرحلة، بوجود المناضلة الجزائرية بينهم.

فمازال صدي هتافات الترحيب، التي أطلقتها الجماهير المصرية، في مطار القاهرة، منذ 56 عامًا، تدوي في أذن المناضلة الجزائرية "بوحيرد"، التي زارت مصر ومعها زميلتها المناضلة زهرة أبو ظريف، لتكريمها بعد أن نالت الجزائر استقلاها من الاحتلال الفرنسي في عام 1962.

وخلدت السينما المصرية، قصة المناضلة الجزائرية، بفيلم من بطولة الفنانة ماجدة، وقصة وسيناريو عبد الرحمن الشرقاوي، ونجيب محفوظ، وعلى الزرقانى، وإخراج يوسف شاهين في عام  1958، وعكس الفيلم توجهات القيادة السياسية في مصر، التي كانت تتزعم حركة تحرير الشعوب العربية، من الخليج للمحيط، رافعة شعار "القومية العربي".

ونضال "بو حيرد" قصة خاضتها الشعوب العربية لنيل استقلالها، لتشتعل سماء وأراضي الدول العربية بالثورة، لم تهدأ إلا بالاستقلال.

كانت المناضلة الجزائرية، فتاة عشرينية صغيرة، عندما اندلعت ثورة التحرير الجزائري، ضد الاحتلال الفرنسي، الذي كان يتبع سياسة "الفرنسة"، لطمس الهوية العربية، وجعل الجزائر جزء لا يتجزأ من فرنسا، ولكن أبطال شعب الجزائر كان لهم رأي أخري، فاشتعلت الأرض بالثورة، سقيت بدماء مليون شهيد.

ولدت جميلة بوحيرت، في حي القصبة بالجزائر عام 1935، وكان البنت الوحيدة وسط 5 أشقاء، مثلها مثل أي فتاة في سنها، فقد انطلقت كزهرة متفتحة للحياة، مارست الرقص الكلاسيكي، وأحبت ركوب الخيل والفروسية، والتحقت بمعهد للخياطة والتفصيل، وكانت تهوي تصميم الأزياء آنذاك.

عندما اشتعلت ثورة الجزائر، تركت "بو حيرد" ألوان الدنيا الزاهية، وانخرطت في الكفاح المسلح وزرع القنابل، وكان مثالها الأعلى عمها "مصطفي"، الذي رسم لها طريق النضال، ليتطور دورها في الجهاد ضد الاحتلال، لتكون حلقة الوصل بين قائد الجبل في جبهة التحرير، ومندوب القيادة في المدينة ويدعي "يوسف السعدي"، الذي رصدت السلطات الفرنسية مائة ألف فرنك للقبض عليه.

كانت "بو حيرد" تثأر لوطنها وعائلتها من الفرنسيين، الذين أعدموا عمها بعض القبض عليه، وألقوا القبض علي أحد أشقاءها، ولم يكن سنه يتجاوز وقتها الـ 15 عامًا، وأذاقوه صنوف العذاب في معسكراتهم، فاستشهد أثناء التغذيب، ليزيد ذلك من حماس الفتاة العشرينية، التي أصبحت بأعمالها الفدائية المطلوبة رقم 1، في قائمة المطلوب القبض عليهم لسلطات الاحتلال الفرنسي.

كانت المناضلة الجزائرية، تحمل الكثير من أسرار جبهة التحري، في أثناء توصيلها لإحدى الرسائل والتعليمات، لقائد مدينتها "يوسف السعدي"، شعرت أن هناك من يتبعها، فحاولت الهرب حاملة أسرارها، ولكن أثناء مطاردتها، أصيبت برصاصة في كتفها الأيسر، ولم تستفيق إلا وهي في المستشفي العسكري، ليسقط العصفور في يد مطارده جريح.

خضع الصيد الثمين للاستجواب، ولكن لم تبح الفتاة العشرينية، بأسرار جبهة التحرير الجزائرية، ومكان قائد المدينة وأين يختبئ وعندما باءت محاولات جنود الاحتلال بالفشل، أدخلوها في نوبة تعذيب، لمدة 17 يوما متواصلة، خضعت لكل أصناف العذاب، وصلت لحد توصيل التيار الكهربائي، بجميع أنحاء جسدها النحيل، وإطفاء أعقاب السجائر في جميع أنحاء صدرها، وكادت أن تموت عندما أصيبت بنزيف استمر لمدة 15 يومًا.

وأمام صمود "بوحيرد" الغريب أمام ألآلات التعذيب، تم نقلها لسجن "بار بدوس"، أكبر مؤسسات التعذيب لدي الفرنسيين، لتخضع للتعذيب لمدة 18 ساعة متواصلة، حتي أغمي عليها وأصيبت بالهذيان، لتبدأ سلطات الاحتلال في التحقيق معها رسميا وهي هذا الحال، بحضور المحامي الفرنسي "مسيو قرجيه"، لاستكمال الشكل القانوني، ولكن المحامي كان يؤمن بقضية المناضلة الجزائرية، وكانت أول كلمتاته لجميلة:" لست وحدك فكل شرفاء العالم معك".

كانت لهذه الكلمات مفعول السحر للعصفور الجريح، سجين جنود الاحتلال الفرنسي، ليزداد إصرارها علي عدم الحديث، والاستمرار علي موقفها،  وأمام  العقابات القضائية والقانونية التي وضعت أمام المحامي لاستكمال دفاعه، هدد الدفاع بالانسحاب من القضية، وأيدت جميلة ذلك، وامتنعت عن الإجابة عن أية أسئلة، إلا في وجود محاميها، وهو ما وضع المحكمة في ورطة أمام العالم.  

استمرت محاكمة المناضلة الجزائرية لمدة شهر تقريبا، ورفض العديد من المحامين الفرنسيين الاشتراك في الدفاع عن جميلة، لرفض المحكمة أطلاعهم علي ملف القضية، وعدم الاستجابة لطلبهم، باستبعاد التحقيقات التي أجريت مع "بوحريد" أثناء التعذيب.

وزاد من الأمر سوء، الاعترافات التي أدلت بها زميلها "جميلة بو عزة" التي قالت في التحقيقات:" أنه بناء على إشارة من جميلة بوحريد، وضعت قنبلة في سلة المهملات يوم 9 نوفمبر 1956، وفي يوم 26 يناير 1957 وضعت قنبلة ثانية انفجرت في مقهى آخر نتج عنه قتل شخصين.

وكانت نتيجة ذلك، إصدار المحكمة حكما بالإعدام علي "بوحريد"، بعد أن وجهت لها تهمة إحراز مفرقعات، والشروع في القتل، والانضمام لجماعة مسلحة، وهدم ومهاجمة المباني بالمفرقعات.  

وقفت الفتاة النحيلة، التي أرهقها التعذيب، وكاد أن يذهب بعقلها، وقالت بثبات جزائرية صامدة:" أيها السادة أنني أعلم أنكم ستحكمون علي بالإعدام، لأن أولئك الذين تخدمونهم، يتشقون لرؤية الدماء، والحقيقة أنني أحب بلدي ولهذا أؤيد كفاح جبهة التحرير".

فأشعل صمود "بوحيرد" العالم  ضد الاحتلال الفرنسي، وكان لها دور كبير في أحياء ضمائر الشعوب، ليتم تخفيف الحكم عليها من الإعداد للمؤبد، وترحيها لقضاء العقوبة في فرنسا، لتدخل القضية الجزائرية منعطفا جديداً، وتحصل بلد المليون شهيد علي حق الاستفتاء علي الاستقلال وتنال الجزئر استقلالها في عام 1962.

تحولت "بوحيرد" لأيقونة للثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي، واستقبلها الزعيم المصري جمال عبد الناصر بالقاهرة، وأصطف كبار رجال الدولة لتحيتها، وبعد مرور 56 تعود زهرة بلد المليون شهيد للقاهرة، لتحظي بنفس التكريم.

التعليقات