"هُنا الضبعة".. إذاعة مصر النووية تبدأ البث بعد 50 عامًا من التشويش والانتظار

أخيرًا، وبعد ٥٠ عامًا من الصمت سيخرج "صوت مصر النووي" من محطة الضبعة على ساحل البحر المتوسط، معلنًا دخول "المحروسة" مرحلة جديدة من المشروعات والأحلام الكُبرى، بعد عقود بدا فيها الحلم عصيًا على التحقق بفعل التشويش المتعمد أو العجز المقيم. وبين قوى دولية لم تكن متحمسة لأن تمد مصر "ذراعًا نوويا" في الأفق، أو إرادة سياسية فاترة، أو ظروف فنية مُرتبكة، تعطل المشروع المصري وانطفأ لعقود خمسة، قبل أن يتم ضبط موجاته مجددًا مع "الدب الروسي"، لتبدأ مصر "الإرسال النووي" بعد سنوات من الانتظار.

بعد توقف دام لنحو نصف قرن، دخل المشروع النووي المصري حيز التنفيذ، بتوقيع الجانبين المصري والروسي عقد إنشاء أول محطة نووية كهرو ذرية بالضبعة، الواقعة شمال غرب البلاد بمحافظة مرسى مطروح، بحضور الرئيسين عبدالفتاح السيسي وفلاديمير بوتين على هامش زيارة قصيرة للأخير.

هذه الخطوة لاقت ترحيبًا محليًا على المستويين الرسمي والشعبوي، بعد اهتزازات كبيرة تعرض لها المشروع النووي منذ عام 1956، وعلى مدار العقود التي تلته، فبين نكسة حطمت خطوات الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ووعد أمريكي زائف هدم طموح الرئيس أنور السادات وحادثة مفجعة لمفاعل تشرنوبل أوقفت ما أقدم عليه الرئيس الأسبق حسني مبارك.

وبعد مرور عامين على اتفاق الجانبين المصري والروسي في العام 2015، يقضي بمقتضاه التعاون فى استخدام التكنولوجيات الروسية في تشغيل أول محطة للطاقة النووية، جاء توقيع العقود النهائية بمثابة تتويج للمساعي المصرية في تدشين المحطات النووية للأغراض السلمية.

ورغم التأخر الكبير في الملف النووي المصري، إلا أن مصر دخلت نحو عصر جديد من التطور التكنولوجى بإضافة الطاقة النووية لمنظومة إنتاج الكهرباء، وسط توقعات بأن تغطي محطة الضبعة النووية نحو 10% من احتياجات الطاقة الكهربائية في مصر.

بمقتضى الاتفاق سيقدم الطرف الروسي، قرضًا لمصر بقيمة تبلغ 25 مليار دولار، من أجل تمويل أعمال إنشاء وتشغيل المحطة النووية، ويبلغ أجل القرض 22 عامًا، بفائدة 3 بالمائة سنويا على أن يبدأ سداد أول قسط عام 2029. وتتكون المحطة من أربعة مفاعلات نووية بقدرة إنتاجية إجمالية 4800 ميجاوات، وسيتم إطلاق المفاعل الأول عام 2024، فيما سيشهد عام 2028، اكتمال أعمال المفاعلات الأربعة.

الأبعاد التاريخية والصداقة المتينة بين البلدين والتي تعود لنحو 74 عامًا، كانت العامل الذي أسهم في اختيار مصر لروسيا الإتحادية لتنفيذ المشروع، حيث أنه مع بزوغ نجم البرنامج النووي المصري الذي بدأ منذ خمسينيات القرن الماضي، ساعدت روسيا مصر في إقامة أول مفاعل نووي عام 1961.

ووسط مخاوف من التسرب الإشعاعي بما يضر بالعنصر البشري والبيئة المجتمعية، جاءت تصريحات رئيس مؤسسة "روس آتوم" الروسية المنفذة للمشروع، ألكسى ليخاتشيف، بأن المحطة النووية بالضبعة مزودة بتكنولوجيا الجيل الثالث، وهو ما يعزز معايير الأمان، لتبث الطمأنينة وتضع حدًا كبيرًا لأي مخاوف.

وبحسب مراقبين مصريين، فإن عنصر توفير الأمان النووي يتضمن 3 مجالات، تتعلق بالمسائل التنظيمية والإدارية وثقافة الأمن للعاملين بالمنشأة النووية، والرقابة من قبل الأجهزة الرقابية على المنشأة النووية، فضلًا عن وجود سياسة  متعددة المستويات لتوفير الأمان النووى من خلال حواجز تمنع تسرب الإشعاعات النووية الخارج، وضمان التدابير اللازمة لتفادي أي حوادث نووية، وتوفير الإجراءات والتدابير الهندسية اللازمة لتحقيق الأمان النووي، كما أن المفاعلات الحديثة مزودة بإجراءات أو نظم لحماية المفاعل من العواصف والزلازل.

وستعالج استخدام الطاقة النووية في إنتاج الكهرباء، أزمة توفير الغاز الطبيعي اللازم لتشغيل المحطات الكهربائية، كما ستوفر طاقة نظيفة وتعد أرخص الطاقات الموجودة لتوليد الكهرباء في العالم.

وتعد مصر من أوائل الدول التي انتهجت مجال الطاقة النووية منذ عام 1955 حينما  شكلت لجنة الطاقة الذرية برئاسة جمال عبد الناصر، ووقعت على إثرها بعد نحو عام عقد الاتفاق الثنائى مع الإتحاد السوفييتى لتدشين المفاعل النووى البحثى الأول فيما عرف بمفاعل أنشاص الذي دخل العمل فعليًا عام 1961.

وكانت مصر من الدول المؤسسة للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأنشأت أول معمل للنظائر المشعة عام 1957 بعد اتفاق تعاون نووى مع المعهد النرويجى للطاقة الذرية، ولإعداد كوادر نووية دُشن أول قسم للهندسة النووية بجامعة الإسكندرية في العام 1964، وفي العام نفسه طرحت مصر مناقصة عالمية لتوريد محطة نووية لأغراض كثيرة منها توليد الكهرباء وتحلية مياه البحر، وبعد أخذ خطوات جادة توقف المشروع.

وبينما حلت نكسة 1967 توقفت كل المشروعات النووية التي كانت تنوي مصر تدشينها، وبدا التوجه السياسي والدبلوماسي لمصر في أعقاب تولي الرئيس السادات زمام الأمور سلبيًا في التعاطي مع الاتحاد السوفييتي لاكتمال المشروعات النووية المتفق عليها.

ورغم التوجه الجديد للدولة المصرية نحو الولايات المتحدة للتعاون في هذا الصدد، والاتفاق على بناء عشر محطات نووية قبل حلول عام 1999 إلا أن المشروع لم ير النور بسبب رفض السادات مغالاة الولايات المتحدة وتشددها فى شروط التفتيش التى أرادت فرضها على مصر.

ووقعت مصر على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية في العام 1981، في أعقاب توقيع بروتوكول يتضمن تزويد مصر بمفاعلين لتوليد الكهرباء عن طريق مؤسسة "فراماتوم" الفرنسية، لكن الحال ظل متأزمًا حتى اغتيل السادات في نفس العام لتنكسر شوكة الحلم من جديد.

خلال عهدي الرئيسين الراحلين عبدالناصر والسادات، لمعت أسماء مصرية لعلماء اكتسبوا شهرة دولية في مجال الطاقة النووية، وطفا اسمهما على السطح كثيرًا بعد اغتيالهم في ظروف غامضة، كان أبرزها الدكتورة سميرة موسى السخرت أبحاثها العلمية لإيجاد علاج لمرضى السرطان بأقل التكاليف إلا أنها اغتيلت فى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1952.

ويقترن اسم الدكتور يحيى المشد أستاذ الهندسة النووية المصري، بتصميم المفاعلات النووية والتحكم في المعاملات النووية، وله نحو 50 بحثًا علميًا في تلك التخصصات لكنه اغتيل أيضًا عام 1980 في أحد فنادق باريس، وبينما تشير أصابع الاتهام دائمًا في جرائم الاغتيال تلك نحو مخابرات الاحتلال الصهيوني الموساد.

بعد تولي الرئيس الأسبق حسني مبارك زمام الأمور في البلاد،  فكر فى إحياء المشروع النووى المصرى، ووقع الاختيار على منطقة الضبعة لإنشاء أول محطة نووية في البلاد وذلك عام 1982واتخذت الدولة قرار الدخول فى المشروع النووى عام 1986 لبناء عدد من المحطات النووية تصل إلى 8 محطات بحلول عام 2000.

وجاءت فاجعة الحادث الشهير الذي وقع بالمحطة النووية بشرنوبل ببيلاروسيا عام  1986، لتغطي على كل القرارات التي اتخذتها الدولة المصرية في هذا الشأن، وإن أثير وقتذاك أن مصر تعرضت لضغوط دولية لعدم اتخاذ خطوات جدية في هذا الشأن واتخذت بعض الجهات الدولية المانحة قرارات بعدم تمويل المحطة النووية المصرية.

وتعد الأرجنتين الدولة الوحيدة التي صدقت وعودها للدولة المصرية بعدما وقعت عقد إنشاء مفاعل نووى بحثى متطور عام 1992، وهو المفاعل النووى البحثى الثانى فى مصر الذى تم بناؤه عام 1997.

وبين مطالبات عدة، ظلت فترة الرئيس الأسبق مبارك، الأطول من بين من سبقوه في الحكم، واقفة على أعتاب القدر دون التفكير في العبور نحو التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية على غرار الكثير من الدول، ليتوج الرئيس عبد الفتاح السيسي خطواته ويسطر بداية عهد جديد للطاقة النووية في مصر، بعد عناء طويل استمر لعقود.

وظل المشروع النووي المصري يتأرجح بين قرارات هذا ومواقف ذاك دون التقدم بخطوة واحدة في تنفيذ البرنامج النووي، بالرغم من أن مصر بدأت خطتها لإدخال تكنولوجيا البرنامج النووي في إنتاج الكهرباء وتحلية مياه البحر مع الهند إلا أن الأحلام سقطت بين أزمات سياسية طاحنة ومواقف دولية شائنة، لتأتي الخطوات المصرية الجادة في مشروع الضبعة العملاق لتفرد مصر من خلاله أذرعتها النووية من جديد ويتجدد الحلم بإعلان "هنا الضبعة" صوت مصر النووي.

التعليقات