منذ قدومه على رأس السلطة قبل 17 عامًا، تبدو عيناه الأكثر حدة تستشرف مستقبلًا يبعث خلاله أمجاد روسيا القيصرية، ومع كل الاختلالات والنزاعات الدولية الحاصلة برز دور بلاده ضمن أكثر بلدان العالم تأثيرًا في المحيط الإقليمي والدولي، بقيادة رجل يصفه العام والخاص بالداهية.
فلاديمير بوتين، اسم ظل يتردد في السنوات الأخيرة على طاولة المفاوضات الدولية، في كثير من القضايا الشائكة التي تتصدر الصحف العالمية ووسائل الإعلام المرئية. معروف بحنكته السياسية والدبلوماسية التي أسهمت في ترويض الدب الروسي ليخرجه من مستنقع الظلمات التي وقع فيها في أعقاب سقوط الامبراطورية السوفييتية عام 1991، ليسير به إلى مصاف الدول الكبرى.
ورث "بوتين" دولة منهكة اقتصاديًا، مفككة جغرافيًا، معزولة دوليًا، فمن بيروسترويكا جورباتشوف (يعني إعادة البناء وهو مصطلح لبرنامج إقتصادي أطلقة آخر زعماء الاتحاد السوفييتي ما أدى لانهياره وتفككه)، إلى مافيا بوريس يلتسن التي فككت أوصال الدولة ودفعت بالفساد إلى معدلات قياسية وتردى اقتصاده إلى الدرجة التى أسقطت هذه الإمبراطورية من عليائها.
ومنذ اللحظة الأولى التي قاد فيها بلاده بعد انتخابه رسميًا رئيسًا للبلاد في العام 2000، اتخذ "بوتين" منهجية محددة وواضحة في رسم سياسات تريد الوصول بوضعية أفضل لبلاد كانت الأكبر دوليًا لنحو عقود، وكانت عينه على كسر ما عرف بسياسة الهيمنة أحادية القطب التي تتفرد بها الولايات المتحدة الأمريكة وتبسط من خلالها سياساتها وحدها وبعض من شركائها الاستراتيجيين من دول الغرب، لاسيما انجلترا وفرنسا.
عارض القيصر البوتيني الرئيس الأمريكي جورج بوش لتوغله عسكريًا في العراق عام 2003، وعكس خطابه أمام مؤتمر الأمن الدولي في ميونيخ عام 2007، استمرارية نقده اللاذع لأمريكا وسياستها الفردية في إيجاد حلول للمشكلات بصورة أحادية الجانب ما نتج عنها مآس إنسانية جمة، مؤكدًا في تصريحات متلفزة تلت مواقفه السالفة بسنوات أن "القيادة الأمركية تدرك تمامًا أنها لن تتمكن وحدها من حل القضايا العالمية الراهنة.
جرأته في التعاطي مع القضايا والنزاعات الدولية عززت التسريع بوتيرة العودة الروسية إلى المشهد العالمي ضمن الملف الخارجي الذي يعمل عليه "بوتين" منذ قدومه إلى السلطة، والذي يستهدف توسيع رقعة العلاقات في المنطقة لإحداث حالة من التوازن في مجابهة تفرد الولايات المتحدة، وأعاد إلى الأذهان مجد الاتحاد السوفييتي مستغلًا صداقاته السابقة وشركائه الاستراتيجيين ونجح في خلق حلفاء استراتيجيين لا سيما في منطقة الشرق الأوسط.
تبدو شخصية "بوتين" ملأى بالغموض على مدار مسيرته العلمية والاستخباراتية والسياسية، ما يعزز ما هو معهود عنه بالمكر والدهاء، وإن ساعدته في تحقيق ما كان يألوا إليه منذ الصبا، ويسجل اسمه بحروف من ذهب بالكريملين في إسهاماته في إعادة روسيا للخريطة الدولية كقوة عظمى لا يستهان بها.
نشأته في مدينة ليننجراد (سانت بطرسبرج الآن) وولادته في العام 1952 بنفس المدينة التي عانت ويلات الحرب وقتل آلاف أهاليها في الحرب العالمية الثانية، شكلت جزءًا هامًا في تكوين شخصية وطابع "بوتين" الحاد، وعكس حال أسرته الفقيرة لأم تعمل بأحد المصانع وأب يخدم في البحرية السوفييتية، تحتضنهم شقة صغيرة، بصمات كبيرة في حياته، ودفعت بوالديه بأن جعلاه مشروعهما المستقبلي الأوحد بعدما فقدوا ولدين آخرين لهما، ليصبح المشروع البديل.
كل خطواته التي اتخذها وتجاربه المختلفة التي خاضها، حتى السلبية منها، اكتسب خلالها مهارات دفعته دفعًا نحو الكريملين، فذاك الطفل الذي انحرف عن المسار الانضباط مع بدايات الثانوية العامة واتبع خلالها منحرفين أخلاقيًا وذوي سوابق إجرامية، استفاد من تلك المهارات اللا أخلاقية، لاسيما في التعامل مع العصابات وعالم الإجرام، ونجح في تحجيم دور المافيات الروسية التي أنهكت المجتمع في أعقاب وصوله للسلطة.
في شبابه كان "بوتين" مغرمًا بابطال الأعمال السينيمائية، لا سيما أولئك الذين يقدمون أدوارًا عن رجال الاستخبارات الروسية، وهو ما ولّد الرغبة لديه بالعمل لاحقًا في جهاز الاستخبارات الروسية (كي جي بي) ، والتحاقه به بعد أعوام قليلة.
ومن أجل العمل في جهاز الاستخبارات عمل "بوتين" على تأهيل نفسه علميًا وبدنيًا، فدرس الحقوق وحصل على الدكتوراه في فلسفة الاقتصاد، ومارس رياضة الفنون القتالية التي تكسبه قوة بدنية كبيرة في لعبة "الجودو" ولا يزال يمارسها حتى أنه ملقب بالأستاذ لحصوله على الحزام الأسود في سن صغيرة "18 عامًا".
في منتصف سبعينيات القرن الماضي، أصبح عميلًا في صفوف الاستخبارات الروسية (كي جي بي)، وترقى في العمل الاستخباراتي إلى أن نُصٍّب على رأس أكبر جهاز استخباراتي (جهاز الأمن الفيدرالي إف سي بي) وهو وريث الـ (كي جي بي) في 1998.
ومنذ العام 1999، و"بوتين" يشغل المناصب الرئيسة في بلاده ما بين رئيسًا لروسيا الاتحادية ورئيسًا للوزراء حتى اللحظة.
حرب الشيشان وساركوزي
عكست حرب الشيشان الثانية أواخر التسعينات شخصية "بوتين"، وعرف العالم وقتها مضامينها، وتمكن من خلالها الحصول على شعبية جارفة، فكانت الحرب امتحانًا صعبًا له، ورغم نجاحه على حساب المجازر البشرية التي ارتكبها بحق الانفصاليين الإسلاميين وبشاعة ما حدث من استخدام للقوة المفرطة، إلا أنه بعث للعالم برسالة واحدة فحواها: "أنا أفكر في توسيع هذه الإمبراطورية وريثة الامبراطورية السوفييتية مهما كانت الثمن غاليًا"، في مشهد يعزز قوة روسيا أمام العالم.
نيكولا هينان، صحفي استقصائي فرنسي، سلط الضوء على جانب من شخصية بوتين في تعامله مع بعض زعماء العالم، في كتابه الشهير "فرنسا الروسية"، إنه على هامش قمة مجموعة الثماني التي عُقدت في ألمانيا، في السابع من يونيو عام 2007، التقى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي عقب انتخابه رئيسًا لفرنسا لأول مرة بالرئيس فلاديمير بوتين، وبعد هذا الاجتماع المغلق، خرج ساركوزي من اللقاء في حالة غير طبيعية، يظهر كما لو كان مخمورًا، وحركات جسمه لم تكن متجانسة.
وسرد "هينان" في كتابه تفاصيل الحال البائس الذي وصل إليه ساركوزي بالقول "ساركوزي لم يكن مخمورًا، والحقيقة كانت مغايرة لما تناقلته وسائل الإعلام"، مضيفًا: ساركوزي شن هجومًا لاذعًا على روسيا في خضم حديثه مع الرئيس بوتين، وندد بالحرب الدموية في الشيشان التي قتلت مئات الأشخاص، كما استنكر اغتيال الصحفية الروسية، آنا بولتوفسكايا، وانتهاك حقوق المِثليين.
وأوضح "هينان" أن بوتين أنصت إلى ساركوزي ولم يقاطعه إلى أن انتهى من كلامه، وقال له بلغة شديدة وصارمة: حسنًا هل انتهيت من كلامك؟ "اسمع جيدًا"، "إن بلدك هكذا"، وأشار بيديه إلى المساحة الصغيرة لفرنسا، ثم قام بفتح يديه قائلًا «أما بلدي فهكذا» للتعبير عن المساحة الكبيرة والشاسعة لروسيا.
واستطرد بوتين قائلًا بلغة فيها إهانة صريحة للرئيس الفرنسي: "لديك حلان، إما أن تواصل الحديث معي بهذه الطريقة، وفي هذه الحالة سأسحقك، وإما أن تُغير من أسلوب خطابك معي، وسأجعل منك ملكًا على أوروبا". وأكد الكاتب الفرنسي أن حديث بوتين لساركوزي كان مليئًا بـ«التقريع والشتيمة والإهانة له، من أجل فرض سيطرته عليه".
وتظهر لهجة "بوتين" حال العداء الذي ينصبه لأمريكا وحلفائها، وأنه يريد الوصول سريعًا إلى ندية ترقى لتدفع ببلاده في صدارة المشهد العالمي. ويمثل وصوله إلى الكريملين وبقاءه حتي اليوم "رمانة الميزان" في إطار التوازنات الدولية، في ظل حالة اللا استقرار واللا توازن.
التحولات والمتغيرات التي لحقت بالمنطقة العربية، في أعقاب الربيع العربي، الذي أسقط أنظمة عربية ويهدد انظمة حليفة لروسيا بنفس المصير، ساهم في تعزيز الحضور الروسي في مزاحمة الولايات المتحدة ورفض إملاءاتها، لا سيما فيما يتعلق بالملف السوري وانحيازه لنظام بشار الأسد، واستخدمت بلاده حق النقض "الفيتو" أكثر من مرة اعتراضًا على إنزال عقوبات على النظام السوري.
وفي أكثر من لقاء عبر "بوتين" عن حزنه الشديد لعدم ردع قوات حلف شمال الأطلسي ومنعه من التوغل عسكريًا في ليبيا ما أسهم في إسقاط العقيد معمر القذافي وقتله، قائلًا: سوريا ليست ليبيا في اشارة لمنع أي تدخل عسكري في البلاد علي غرار ما فعله الناتو.
الدور الروسي في الأزمة السورية، كان بمثابة المنصة الرئيسة التي انطلق منها "سيد الكرملين" في الإعلان عن موقع روسيا في السياسة الدولية، واستطاع خلاله تشكيل تحالف استراتيجي يناصب العداء للولايات المتحدة علانية (إيران وتركيا الأبرز)، وإن فسر مراقبون أهداف العملية العسكرية الروسية في سوريا، بأنها محاولة لفرض موسكو الشراكة على واشنطن عبر عمل عسكري مشترك في سوريا ضد الإرهاب.
ومن ثم، فإن وجود قوات عسكرية للبلدين على مسرح عمليات عسكرية واحد يضيق من خيارات واشنطن، وأضحت سوريا مسرحًا لاستعراض روسيا قوتها العسكرية، ووسيلة تسويقية كبرى للأسلحة الروسية، بجانب لعبة الغاز (الصراع الخفي بين القوى العظمي في الشرق الأوسط).
تعزيز القوة العسكرية السلاح الروسي، واتخاذ خطوات سياسية ودبلوماسية، بجانب شبكة العلاقات مع عدد من دول في الشرق الأوسط، أسهم في وضع بذور الهيمنة الروسية.
أرقام في ظل روسيا بوتين
بلغت قيمة الصادرات الروسية نحو ٥١٥ مليار دولار، وتحتل المرتبة الخامسة عالميًا فى إنتاج القمح، وتعد روسيا من أكبر الأسواق المصدرة للسائحين فى العالم (يعكس حالة الرفاهية لنسب غفيرة من سكان روسيا، لاسيما أنهم ثانى أكثر السائحين إنفاقا فى رحلاتهم بعد الصينيين).
عسكريًا، تمتلك روسيا ترسنة نووية ضخمة ولديها أقمار للتجسس، وجيشًا قوامه أكثر من مليون فرد، وتعد قواتها البحرية والجوية من بين الأكبر عالميًا، لديها ١٦٠٠ رأس نووية، وتعد بين أكبر موردى الأسلحة فى العالم لنحو ٨٠ دولة، وتحل خامسًا بين أكثر دول العالم فى مجال الإنفاق العسكري.
يظل "بوتين" أحد الشخصيات الفارقة في تاريخ روسيا الاتحادية، فالرجل الذي قفز بها إلى بر الأمان، بعدما أصبح شعبها يتسول لقمة العيش ويبحث في مقالب القمامة ما يسد به رمقه وجوفه في عهد سالفه، ما كان له أن يتصدر تصنيف مجلة فوربس العالمية ضمن أكثر الشخصيات تأثيرًا في العالم لأربعة أعوام متتالية منذ العام 2013 حتى الآن، دون أن يمتلك مقومات الزعامة، ليعيد روسيا في صدارة المشهد من جديد وتراوده أمجاد أسلافه القياصرة.
التعليقات