بعد غياب دام لنحو 230 يومًا، عاد حبيب العادلي وزير الداخلية المصري الأسبق، إلى السجن، في ظل ظروف أكثر غموضًا من تلك الفترة التي اختفى فيها عن الأنظار، خاصة عن وزارة الداخلية المصرية، التي كانت تتحسس خطواته طيلة تلك الفترة حتى تمكنت من كشف غموض الاختفاء المتعمد من رجل أمن مبارك القوي، لاسيما بعدما دخلت الداخلية في صدام محقق مع الكثيرين من المراقبين والحقوقيين، الذين ألقوا نحوها سهام الاتهامات التي كيلت ضدها بأنها على علم بما جرى وتتعمد إخفاء وزيرها الأسبق عن أعين العدالة.
رواية الداخلية المصرية تحدثت عن أنها حددت مكانه وأخطرته بتسليم نفسه تمهيدًا للمثول أمام محكمة النقض المصرية التي تنظر الاستشكال الذي قدمه حبيب العادلي طاعنًا خلاله على الحكم الصادر ضده من قبل محكمة الجنايات بالسجن المشدد 7 سنوات في القضية المعروفة إعلاميًا بـ"فساد الداخلية".
"حبيب العادلي" الذي تقلد أعلى سلطة أمنية مدنية في البلاد طيلة 14 عامًا (1997 - 2011) ، يظل واحدًا من الذين لن تنساهم ذاكرة التاريخ.. وإذا اعتبر أحمد رشدي وزير داخلية مبارك الأشهر من بين وزراء الداخلية نزاهة، فالعادلي يعد أكثرهم شراسة، فسياسة القبضة الحديدية التي انتهجها كوزير للداخلية مكنته من السيطرة على زمام الأمور حتى أقنع رأس الدولة وقتذاك "حسني مبارك" بأنه الشخص القوي الذي لا بديل عنه، واستخدمه الأخير لتكريس سياساته وبسط يده على البلاد حتى في أشد أوقاته ضعفًا.
وتبدوا المقاربة الغريبة في ترتيب حبيب العادلي من بين وزراء الداخلية الذين تقلدوا المنصب منذ عصر الخديوية وإلى اللحظة الراهنة، الذي ارتبط بالرقم المآساوي في تاريخ مصر الحديث، حيث يعد "العادلي" وزير الداخلية رقم 67 وكأن سخرية القدر قد تحاملت على الرجل الذي عاش سجانًا وخرج مطرودًا وأنهى حياته سجينًا.
في تسعينيات القرن الماضي، انتهجت الجماعة الإسلامية العنف واقترن اسمها بجرائم إرهابية عديدة، كان أبرزها الحادث الشهير مذبحة الأقصر، والتي قتل خلالها نحو 58 سائحًا من جنسيات مختلفة، وهو ما أثار ردود فعل دولية سلبية تجاه مصر في أعقاب الحادث، وكان من بين القرارات التي استصدرها الرئيس السابق محمد حسني مبارك هو إقالة وزير الداخلية حسن الألفي.
كانت موجات الإرهاب على أشدها، وكان التفكير في رجل أمني قوي ضرورة ملحة تقتضيها ملابسات الواقع الشائك، وقتها كان حبيب العادلي يشغل منصب رئيسًا لجهاز مباحث أمن الدولة، ووقع الاختيار عليه ليتقلد المنصب، وعزي له قدرته في التخلص من عنف الجماعة الإسلامية في وقت قصير، وبعدها أعلنت تلك الجماعة تخليها عن العنف بعد مراجعات فكرية مع بعض قادتها داخل السجون، أفرج عن بعضهم بمقتضاها فيما بقي أغلبهم في غياهب السجون لرفضهم تلك المراجعات بل اتهم الموافقون عليها بأنكل الصفات "تكفيريين".
بسط حبيب العادلي سلطته، وأقنع قادته بأنه الرجل القوي، وظل في منصبه يتتبع المعارضين ويقصي المخالفين، في عهده اتهمته الأمم المتحدة وعدد من المنظمات الحقوقية المحلية والعالمية بانتهاك حقوق الإنسان واستخدام التعذيب في العديد أقسام الشرطة والاعتقال التعسفي بصورة ممنهجة، سرعان ما تبرأت من سياساته وزارة الداخلية في أعقاب الثورة بالقول "زمن ولى دون عودة".
لكن الرجل القوي ذاك لم يثبت على قوته بل أصيب بالوهن والضعف بمرور الأيام والسنين، فلم يلبث "العادلي" أن يتخلص من صداع الجماعة الإسلامية، إلا وضربت عدة تفجيرات مصر في أوقات متقاربة، لا سيما مع قدوم عام 2004، الذي وقعت فيه تفجيرات طابا الشهيرة، وفي 2005 كانت هجمات (خان الخليلي- أسفل كوبري 6 أكتوبر- القلعة) بالقاهرة، وفي شرم الشيخ في العام نفسه ضربت المدينة السياحية عدة هجمات متزامنة ومتتالية وصفت بالأسوأ في تاريخ البلاد توفي على إثرها 88 شخصًا وأصيب نحو 200 آخرين.
وبينما حلّ العام 2006 إلا وهزت التفجيرات مدينة دهب الحدودية السياحية، تلاها بثلاثة أعوام تفجيرات الحسين الشهيرة قتل على إثرها نحو 25 سائحًا من جنسيات مختلفة، وقبيل ثورة 25 يناير عام 2011 بأيام قليلة هزت محافظة الإسكندرية تفجير استهدف كنيسة القديسين صبيحة السبت في الأول من يناير لعام 2011، عشية احتفالات رأس السنة الميلادية، وكانت بداية النهاية لوزير الداخلية الذي اتهم بالتقاعس والفشل في إدارة الملف الأمني في البلاد.
حادث القديسين تزامن مع أزمة خالد سعيد التي تعد أبرز حوادث التعذيب التي شهدها عهده, حيث لقى حتفه بعد سلسلة من التعذيب تعرض لها من قبل قوات شرطة بسيدى جابر، وبالرغم من أنه لم يكن الأول الذي يتعرض لتعذيب ممنهج، لكن حدة اللهجة الشعبية كانت أقوى مما كانت عليه في حوادث شبيهة، حيث اشتعلت الاحتجاجات على مقتله بعد عدم الوثوق في رواية الشرطة حول سبب الوفاة التي تلخصت في ابتلاعه للفافة من نبات البانجو المخدر، وقوبلت الاحتجاجات بمزيد من الانتهاكات القمعية للقوات الشرطية وقتها، وكانت بداية اللهيب الذي حرق كل الوجوه التي اعتدت على حق الشعب طيلة عقود طويلة، وبدت شرارة ثورة الـ25 من يناير لعام 2011 ليكتب عهدًا جديدًا بعدها.
فقدت وزارة الداخلية في أعقاب انتفاضة المصريين في 25 يناير، قوتها في السيطرة على زمام الأمور، بعد فشلها في التصدي لأمواج كالسيل من البشر رافضين النظام القمعي، انسحبت الشرطة من الشوارع واقتُحمت السجون وأفرغت الأقسام بمن فيها إلا القليل منها، بيد أن حبيب العادلي الذي حصل على فرقة إدارة الأزمة عام 1985 من الولايات المتحدة الأمريكية فشل في الإدارة في أول اختبار مصيري يواجهه.
أعيد الى الأذهان وقتها فجيعة التسلط الأمني الذي قاده حبيب العادلي، الذي لم يترك شبرًا في البلاد إلا ونغص فيه، في الانتخابات النيابية والمحليات مارس سطوته لتكريس قوة حزب مبارك ونظامه، منع السياسة في الجامعات، مارس التسلط على الأحزاب، حتى حانت اللحظة التي اجتمع فيها هو وقائده السياسي "مبارك" في قفص حديدي واحد، تحت سقف قاعة ضمن أكاديمية أشرف على بنائها وأطلق عليها اسم سيده "أكاديمية مبارك" والتي تغير اسمها لاحقًا إلى أكاديمية الشرطة.
أقيل "العادلي" بعد أيام قليلة من الثورة، واستوقفته السلطات في أعقابها على إثر محاكمته ضمن قضايا كثيرة أبرزها: قتل المتظاهرين في ثورة يناير فيما عرفت بـ"قضية القرن"، والضلوع في حادث تفجير كنيسة القديسين، والكسب غير المشروع في الاستيلاء على المال العام، وسخرة المجندين التي أدين فيها وسجن على إثرها في حكم نهائي بثلاثة أعوام، فيما تمت تبرأته من كل القضايا التي سبقتها رغم الإدانة في بعضها لكن درجات التقاضي برأته بشكل نهائي منها.
وبينما قضت محكمة جنايات القاهرة في 15 أبريل الماضي، بإدانته بالسجن المشدد 7سنوات في قضية إهدار المال العام، اختفى "العادلي" في ظروف غامضة وعاد ليقبع في السجن، ليتحول سجان الأمس إلى سجين اليوم، وكأن التاريخ يعيد نفسه في تسطير نهايات سوط الظالمين.
يستحق حبيب العادلي دون منازع لقب "مفجر" ثورة ٢٥ يناير، فقد كانت ممارسات جهاز الشرطة في عهده مستفزة للكثيرين ممن وجدوا في مظاهرات ٢٥ يناير ٢٠١١ فرصة للتعبير عن الغضب الذي تجمع في ٢٨ من الشهر نفسه، ليحرق أقسام وسيارات الشرطة، التي كانت أعمدة نظام مبارك الذي سقط بعد ذلك بأيام.
التعليقات