قصور التنمية 

قصور التنمية 

د.وليد جاب الله

الدولة في جوهرها تُعد شكلاً من أشكال التنظيم الاجتماعي الذي لايزال يُنكره غالب الماركسيين. وإذا كانت أركان الدولة هي الشعب والإقليم والسلطة السياسية فلا يُمكن أن نؤسس لتنمية الإقليم دون تأثير من تفاعل الشعب مع سلطته السياسية.

وتسعى السلطات السياسية في كل الدول إلى البحث عن خصوصية تُوحد بين عناصر الشعب وتؤسس لمشروعيتها ففي ألمانيا نجد أن مبدأ سمو الجنس الآري هو أساس القومية الألمانية، بينما نجد أن نشر الفكر الوهابي وارتباط الحاكم برباط النسب مع القبائل كان مُحرك تكوين الدولة السعودية، بينما يُعد المذهب الشيعي هو العقيدة التي يجتمع حولها الشعب الإيراني، وهناك العديد من العقائد والتأسيسات الأخرى لقيام الدولة وضمان استمرارها.

وفي مصر ارتبطت نشأة الدولة الفرعونية بعقيدة العبادة وشكلت المعابد غالب ما تركته من آثار، ويُمثل الفتح الإسلامي بداية إرهاصات الدولة المدنية في مصر فلم يُجبر مصري على الإسلام وظل القطاع الأكبر من المصريين على ديانتهم حتى نجحت الدولة الفاطمية في إقناع غالب المصريين بدخول الإسلام، ثم ارتبطت عقيدة المصريين بكونهم جزء من الخلافة الإسلامية وذلك ما جعلهم يقبلوا بالغزو العثماني رغم بشاعة جرائمه التي ارتكبها في حق المصريين

ومع قيام ثورة يوليو1952 نجحت السلطة بقيادة الرئيس عبد الناصر في دعم عقيدة الدولة المصرية الوطنية التي تستقر في حدودها وترتبط مع مُحيط أمنها القومي برباط العروبة الذي ارتفعت قيمته بشدة في تلك الفترة، إلى أن اضطر الرئيس السادات لعودة محسوبة للعقيدة الدينية في مُحاولة للحد من المد الشيوعي مع الحفاظ على وطنية الدولة. واتسمت فترة الرئيس مبارك بالحفاظ على مُقومات الدولة الوطنية مع الحد من كافة المُعتقدات التي يُمكن أن تدعمها فسادت القيم المادية وارتفعت التطلعات وتصارعت الفئات ماديا للحصول على أكبر مكاسب تحت شعار العدالة الاجتماعية. ذلك الشعار الذي كان وقود ما حدث في يناير 2011، ومع تلمس مصر لدولة جديدة نبذ الشعب دُعاة الدولة الدينية بكل أشكالها ولجأ للجيش الذي هو عماد الدولة منذ عصر الفراعنة، ليتولى الرئيس السيسي الحكم بعد فترة انتقالية، ويجد نفسه أما نموذج تمنية حتمي فرضه الواقع العالمي ولابد أن يسابق الزمن في تنفيذه قبل لحظة الانهيار التي كانت تقترب، وقد تم الانطلاق نحو التنمية تم بحسن نية كبير أُعتبرت فيه وطنية الدولة من المسلمات دون التأسيس لبرنامج إصلاح ثقافي يتبنى عقيدة تلتف قوى الشعب حولها وتحفز همم المُضارين من تبعات الإصلاح. ربما عقيدة مُحاربة الإرهاب كانت مُناسبة ولكن مع استقرار الأوضاع لم تعد كافية، وربما كانت عقيدة الثقة في شخص الرئيس قائمة لكنها غير قابلة للاستمرار وقد ارتد قبل ذلك قوم موسى وقال لهم "أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي".

وقد كانت الحديث عن بناء قصور أو مُشكلات تعاقدية لبعض المُقاولات كاشفاً للأزمة الحقيقية المُتمثلة في افتقار نموذج التنمية المصري لعقيدة وظهير ثقافي. فما يتم تداوله أمر تافه ولم يأتي بجديد فالفساد موجود في القرآن الكريم وسيظل موجوداً حتى قيام الساعة فهو أحد عناصر الصراع الأزلي بين الخير والشر، والهيئة الهندسية بالقوات المُسلحة من أقل المؤسسات فسادا وهي في حالة تنقيه دائمة لأفرادها بحكم الرقابة الشديدة عليها من غيرها من المؤسسات. والحديث عن بناء قصور ومُنشأت رفاهية يخلط بين ما يتم من تطوير عقاري بهدف الربح وبين دور الدولة في التنمية، فدور الدولة التنموي للتعليم والصحة وغيرها من القطاعات مُقرر ومُخطط له في الموازنة العامة واستراتيجية 2030، أما أن يتم بناء قصر أو مبنى لرئاسة الوزراء أو فندق لتعظيم القيمة العقارية لمنطقة مُعينة من أجل الحصول على إيراد لاستكمال التطوير وتحويل الربح لبناء إسكان العشوائيات فهذه مُهمة أخرى تصدت لها الدولة بعد فشل تجربتها قبل يناير 2011 بمنح المُستثمرين أراضي شبة مجانية مُقابل بنائهم لإسكان اجتماعي فاستولوا على الدعم وعرضوا الوحدات بأسعار السوق.

لا أريد الإطالة حول اللغط الذي أثير حول هذه القضية، ولا أؤيد تحميل الإعلام مسؤلية سوء التعامل مع هذا الملف فالإعلام أيضاً يُعاني من عدم وجود عقيدة ومشروع مُتكامل يصلح لبناء سياسة إعلامية مُحكمة لأن التشخيص الحقيقي لتضخيم حالة اللغط الحالية أراه مُتمثل في عدم وصول فكرة شاملة عن نموذج التنمية للمواطن الذي يتحمل مرارة الإصلاح بثقة ستتأكل بمرور الأيام لعدم وجود عقيدة حقيقية لتقبل  التغيير للصورة التي تُناسب نموذج التنمية وتسمح بقطف ثماره  بعد أن انسحبت وزارة الثقافة وابتعدت قصور ثقافتها عن مُمارسة دور مؤثر لتحقيق ذلك، وأتصور أنه آن الأوان للتأسيس لعقيدة تنمية حقيقية وراسخة تُثبت الشعب أمام موجات زعزعة الاستقرار التي يقف ورائها المُنافسين الاقتصاديين بالمنطقة والذي يُمثل أي نجاح لمصر خصماً من مشروعاتهم التنموية بدولهم.  

التعليقات