الفيزياء والحرب

حينما قام (مايكل أنجلو) بزخرفة سقف كنيسة سيستينا بالفاتيكان ، كان شديد التركيز بعمله حيثُ أبدع لدرجة اللامعقول وكانت دقتهُ بالعمل استثنائيه ، ولو لم يكن حاضر التركيز ومراعي لكل سنتيمتر بالسقف المهول لخرجت نتيجة أخرى ولربما كانت رسمه عادية جدا ، إذا دعنا نقول أن هنالك شعرة أحياناً بين الجمال والقباحه ، هنالك شعره غير مرئيه بين النجاح المطلق والفشل المطلق ، هي نفسه الشعرة اللامرئيه بين العبقريه الفذه والجنون ، بين الإيمان والإلحاد ..... إن جراح القلب وأثناء عمله يكون تركيزه بغاية القمة ، فقد يُحيي المريض أو يودي بحياته ، تماماً كدقه الصاعق الذي يغلق صمام الصاروخ ، فهذا الصاعق منحوت بأدق التفاصيل كي يُغلق الصمام بدقه عجيبه ولو اختلف هذا النحت ربع ميكرومتر مثلا لما تمت عمليه الإطباق بنجاح وقد تؤدي لإنفجار الصاروخ على متن الحامله التي تحملهُ سواء أكانت منصه إطلاق أو طائرة ....  هنالك ثمة مرتبه أعلى من الدقه وهي الدقه المتناهيه والتي تحدث عنها العالم ( نيوتن) ورئى بأنها ليست ذات أهميه ولا تؤثر على النتيجة النهائيه ، فلو كان عندنا انبوبين متساوين بكل شيء (طول وعرض ودرجة انحناء) لكن أحدهم يوجد بهِ نتوء طفيف بداخله ( ندبه) طولها مثلا سنتيمتر واحد فقط وقذفنا بكل إنبوب كرة صغيرة بسرعه واحده عندها ستخرج الكرتان من الفتحه النهائيه لكلا الانبوبين بنفس الطريقه ويرى نيوتن بأن هذا النتوء لن يؤثر مطلقاً على شكل خروج هاتين الكرتين أي أن كلتاهما ستخرجان بنفس النتيجة الميكانيكيه والفيزيائية ولا يعير نيوتن أي اهتمام للنتوء آنف الذكر في بنية التجربه .... وقس على ذلك الكثير من الأمور الحياتيه ، فكثيرٌ منا يقول يجب أن لا نضيع الوقت بهكذا فروقات نحيله لا تسمن ولا تغني من جوع ، ما المشكله اذا كانت أزرار القميص تختلف بالحجم الذي لا تلحظهُ العين المجردة ، أو ما المشكله اذا أخرت هذه الساعه ثلاث ثوان فقط لن تكون نهاية العالم ، ما المشكله اذا كانت حرارة فرن الطهي ١٦٤ درجة مؤيه وليست ١٦٧ . الحقيقه نيوتن نفسهُ وجد بأن هذه الاختلافات طفيفه جدا ولا تأثير لها على النتيجة النهائيه ، لكن هذا الاعتقاد سرعان ما تم ضحدهُ وعدم تبنيه حينما تقدمت البشريه أكثر بالعلم والمعرفه والاختراعات الدقيقه جدا ، وكان لعالم الرياضيات الفرنسي ( هنري بوانكاريه) رأي مضاد لذلك وذلك في بدايه القرن الماضي حيث رأى بأن هذه التغيرات الطفيفه جدا تؤثر تماماً على النتيجة النهائيه مع مرور الزمن و هذه التغيرات قد تؤدي لإبتعاد النتائج بشكل كبير جداً عن بعضها، إذا هنالك اختلاف يجب عدم إهماله أبدا. لنأخذ مثال بسيط إن الرقم السحري الثابت (باي) π والذي هو 3.14159265358979323846 هو رقم عجيب حقاً وهو مقياس النسبه والتناسب في كل شيء ، هذا الرقم يتعاطى معه الكثيرون بالتقريب بمن فيهم الفيزيائيون والرياضيون فنجدهم يقربون الرقم اختصاراً إلى 3.141 ويهملون المنازل الكسريه التي تكمل الرقم حجتهم أن النتيجة ستكون متشابه جدا جدا وقريبه ولا جدوى من تضيع الوقت بتلك الارقام ، هذا ما سَخر منهُ عالم الرياضيات والارصاد الجويه ( إدوارد نورتن ) صاحب نظريه الفوضى أو ما يسمى بفرضيه أثر الفراشه Butterfly Effect والذي يرى بأن الاجابه ستبتعد كثيرا مع مرور الوقت اذا تم اهمال تلك الارقام وهذا ما أثبته عبر تجربة باروميتر للرصد الجوي قام باختراعه ، ولاحظ اختلاف النتائج كلياً مع مرور الوقت بسبب إهمال هذه المنازل الكسرية ..... إن جوهر نظريه الفوضى تقول ( بأن التغيرات البسيطة جدا تؤثر على أنظمة معقدة وضخمة ) وبسطها عندما قال بأن رفرفه جناح فراشه بالبرازيل مثلا قد يكون سبب بحدوث إعصار بتكساس بعد عدة اسابيع بسبب هذه الرفرفه التي كبرت وكبرت وكبرت حتى كانت سبب بتحريك الريح وصولاً لتكساس وهذا سبب تسميتها ( أثر الفراشه butterfly Effect) ....  بادئ الأمر قد تسخر من هذه النظريه مثل ما سخرت أنا شخصيا منها حيثُ وجدتها قمة الهرطقه العلميه وباللهجة المحليه    ( فذلكه) لكن عندما تمعنت أكثر بهذه النظريه وجدت بأنها دقيقه جدا رغم أنها مصطلح مجازي فلسفي نوعاً ما أكثر منهُ علمي ، فالعمود الأساس الذي بنيت عليه النظريه هي عدم احتقار التغيرات البسيطه أبدا والتي سيكون لها تأثير كبير جدا على النتائج مع مرور الزمن ، حيث أجد بأن ذلك ينطبق على كل شيء نفعلهُ بالحياه ، مثلا لو وضعنا صخرة صلبه أسفل صنبور ماء وجعلنا الصنبور يقطر عليها قطرة كل ثانيه فلربما بعد عشرين سنه ستنجح القطرات أخيرا بشرخ الصخرة لشطرين رغم أن المنطق يرفض ذلك لكن هذه حقيقه حتى لو لم يتقبلها العقل والمنطق .... كم من أمر بسيط لا يُذكر كان سبب بتغير جوهري وكبير جداً فيما بعد وخير مثال على ذلك هي الحروب والتي انطلق معظمها من شرارة واهيه تافهه لحدٍ ما ..... أيعقل إذا أن تندلع حرب (دلو البلوط القديم) في سنة 1325م ، نشبت الحرب في ايطاليا عندما أغار جنود من مدينة مودينا على مدينة بولونيا كي يعيدوا دلو مصنوع من خشب البلوط كانوا يعتقدون أنهُ سُرق من مدينتهم .... حيث بدأت برفرفه فراشه ليندلع بعدها الاعصار الكبير ..... أيعقل أن يخسر فريق السلفادور لكرة القدم من نظيره الهندوراسي عام ١٩٦٩ لتقوم الأولى بشن حرب على الثانيه راح ضحيتها ما يزيد عن ٣٠٠٠ شخص .... شرطيه متعجرفه بتونس صفعت مواطن بسيط على وجهه أشعلت غضب شعب بأكمله لتشتعل بعدها دول عربيه كثيرة أدت لمأساة ما يسمى الربيع العربي ، أليست هذه رفرفه فراشه أدت لزلزال وبركان واعصار فيما بعد ......كم من كلمه يقولها شخص ويظنها كلمه عاديه تكون سبب بتغيير حياة فرد آخر للأبد ولربما حياة أمة بأسرها ، كلمة طيبه تقولها تُبنى عليها الآمال ولربما كلمة جارحة تتلفظها تمحو حياة إنسان وعائلتهُ من الوجود .... يجب أن ننتبه كثيراً لما نقول ونرى ونسمع وعلينا تذكر أثر الفراشه على الشيء الذي ننوي القيام به ، الدنيا سلسله من العجائب والأسرار والتي ستستمر ألغازها إلى مالا نهايه .... عجيبه في كل شيء هي الدنيا حتى بأبسط قوانينها .

التعليقات