تنبؤات رواية المقاطعة التاسعة للروائي رضا سليمان

ودائما ما تسبق أفكار الأدباء الساسة والعلماء في رسم خطى مستقبلية تراها العقول القاصرة على أنها محض خيال كاتب يفتقد لنصيب كبير من الرشد، لكن تمر السنوات وتتوجه بشكل لا إرادى جهود العلماء والساسة إلى تلك الوجهات التى أشار إليها قلم الأديب والمفكر ليصنعوا ما تنبأ به ويمجدونه ويثنون عليه في كل محفل تكريم متناسين أنهم من قبل كانوا يصفونه بمارق مخرف ..وإن عدنا بالذاكرة سنوات مضت حينما تحدث الأدباء في أعمالهم الروائية عن تواصل يتم بين الأفراد عن بعد بالصوت والصورة (أطلقوا عليه اسم جهاز الهليفون مأخوذا من التليفون) وكانت سخرية كبرى من الاسم والخيال الجامح للكاتب .. فكيف يحدث ذلك ؟! وها هم العلماء انتجوا وأصبح العالم كله يتواصل بالصوت والصورة .. وعلى ذلك المنوال الكثير فما كانت الطائرة وما تطور عنها ليخترق الفضاء إلا فكرة جامحة .. والأمثلة كثيرة لكننا لسنا في مقام حصرها.

وإننا من هذا المنطلق ننشر الفصل الأول من رواية "المقاطعة التاسعة" للكاتب الروائى والإعلامى المصرى رضا سليمان، وهو فصل بعنوان "نهر الحق" فهل ما يتنبأ به الكاتب هنا يمكن أن يُقال عنه أنه خيال لكاتب يشط في فكره أم هى إشارات لأحداث قد تتوجه إليها أيادى العلماء والساسة في المستقبل القريب؟ 

لنترك المستقبل وما قد يحدث فيه ونقرأ هذه السطور من باب الاستمتاع بفصل من رواية "المقاطعة التاسعة"    

نهر الحق

يقف العالم مشدوهًا أمام تلك الأحداث المتتالية التى حدثت فى الفترة الأخيرة، من هذا العام الذى يكتمل فيه القرن الحادى والعشرون وهو عام 2100 م، فى قلب "الغابات الغربية" التى تمتد بداية من الجهة الغربية للنهر المعروف باسم "نهر النيل" وحتى الحدود المتاخمة لدولة "ليبيا الشرقية" ومرورا بـ "نهر الحق" الذى يتوسط تلك الغابات.

بالتحديد حدثت الجرائم فى المقاطعة التاسعة التى تتواجد بين الكثير من المقاطعات، فى كل مقاطعة أو منتجع تتناثر البنايات التى تفصلها عن بعضها البعض المساحات الشاسعة من أرض الغابات.

تكونت الغابات الغربية على ضفتى "نهر الحق" الذى يمتد من جنوب مصر حتى شمالها فى خط موازِ للنهر الأول " نهر النيل".

نهر الحق لم يظهر للوجود على مدار السنين كما ظهر أبيه من قبل (إن استطعنا أن نُطلق على "نهر النيل" الأب وعلى "نهر الحق" الابن)، إنما ظهر خلال العقد الثالث من بداية هذا القرن الذى أوشك على الانتهاء، حينما قررت الدولة الإفريقية المعروفة باسم أثيوبيا عمل سد على منابع النيل يُدعى "سد النهضة" وقد استمر العمل فى هذا السد عدة سنوات ثم بدأ حجب المياة خلفة على مدار سنوات أخرى، تسعى إلى خلق تدفق مائى من أعلى السد يضمن لها توليد الكهرباء ولكن لم تمر عدة سنوات حتى زاد ضغط المياه على السد الذى بدا أنه لن يتحمل.

فى حينها بدأت الأنباء، عن وجود تصدعات فى السد، تتسرب عبر وسائل الإعلام وهو أمر كان يُنبئ بكارثة حقيقية، انهيار السد سوف يؤدى إلى غرق معظم مدن الدلتا فى شمال مصر وعلى ضفتى النيل من جنوب البلاد حتى شمالها.

لم يكن أحد يدرك أن الإدارة الهندسية بالقوات المسلحة المصرية فى هذا التوقيت تعد العدة وتستعد لمثل هذه الكارثة بأن توسطت الصحراء الغربية مترامية الأطراف وشقت فى وسطها نهرًا بدا فى وسط الصحراء وكأنه عمل أخرق من أعمال تمهيد الطرق وخلق محاور جديدة لذا لم يتم الإعلان عنه، حتى حدثت الكارثة وانهار سد النهضة فى أثيوبيا.

كارثة مدوية يتحدث عنها العالم أجمع، بدأت جميع القنوات الفضائية فى نقل الحدث على الهواء عبر كاميرات المراسلين فى طائرات الهليكوبتر وهى تتابع الماء يجرف فى طريقه كل شئ، منطلقًا فى سرعة أسطورية إلى دول المصب، ولأن دولة جنوب السودان بها الكثير من تفريعات نهر النيل فقد استوعبت الكثير من المياه وإن تم، من باب الاحتياط، تهجير سكان بعض القرى المتاخمة للنهر، أما دولة السودان نفسها (وهى ذات مساحات صحراوية واسعة وعدد القرى على ضفتى النهر كبير) فقد هَجَّروا أهالى القرى المتاخمة للنهر إلى الصحراء وتركوها لتدمر خلال ساعات أمام تيار الماء الأسطورى الذى جمعته أثيوبيا خلال سنوات، وقد ذكر عدد من الشيوخ المدعين الذين يصرخون فى كل مناسبة السيل العرم الذى دمر سد مأرب فيما قبل التاريخ وكيف أنه كان غضبًا إلهيًا على أهل سبأ ويبدو أن الغضب الإلهى يتكرر اليوم.  

حتى وصل الطوفان الهادر إلى بحيرة السد العالى فى جنوب مصر ليضغط عليه ويهدد بانهياره، هنا يترقب العالم أجمع الخطوة التالية التى ستقوم بها مصر، هل تترك السد ليتصدى إلى الماء وتخاطر؟ أم ستقوم بفتح السد العالى وبذلك تخاطر بإغراق قرى ومدن بأكملها ؟

ولكن كانت المفاجأة التى أذهلت الجميع.. فجأة فُتِحت جميع بوابات السد العالى وانهمر الماء بشكل جعل كل سكان العالم يحبسون الأنفاس وقد وضعوا أيديهم فوق رؤوسهم فى انتظار الكارثة التى ستحدث خلال دقائق، فنهر النيل فى مصر مجرى واحد فقط ولن يستوعب كل هذه المياه المتدفقة فى قسوة وشراسة .. 

لكن فجأة وبمنتهى الهدوء .. فوجئ العالم بالماء يتحرك فى اتجاه اليسار ليشق طريقه فى الصحراء الغربية .. ماذا يحدث؟ الجميع يتساءل .. كيف للماء أن ينحرف يسارًا هكذا !! اقتربت الكاميرات أكثر وأكثر .. فإذا بالماء ينطلق فى مجرى جديد يتوسط الصحراء الغربية من الجنوب وحتى الشمال. 

تُعلن القيادة المصرية فى بيانٍ تلفزيونى تنقله القنوات الفضائية العالمية ويترجم إلى جميع اللغات بأن مصر كانت قد أعدت العدة لهذا اليوم وحفرت نهر جديد وأطلقت عليه اسم "نهر الحق" فى إشارة منها إلى أن هذا الماء هو حق مصر وقد عاد إليها .. 

ينساب نهر الحق موازيًا لنهر النيل تفصل بينهما مئات الكيلومترات حتى يتلقى منهما البحر المتوسط فى النهاية القليل جدا من الماء.. فلم تكن القيادة لتسمح بإهدار الماء بتركه يذهب سدى فى البحر، لذا قامت بشق المجارى المائية على يمين ويسار النهر كل عدة كيلومترات لتصنع أكبر شبكة مجارى مائية عذبة فى العالم تستوعب كافة مياه الفيضان وتحتفظ بها بل وتستثمرها فى رى الغابات الغربية.

توقع العالم بأن تجف المياه بعد فترة لأن المخزون الذى كان قد تكون خلف سد النهضة قد انتهى ولكن هذا العالم فوجئ مرة أخرى بأن المياه لم تجف لأن هناك عدة مشروعات ظهرت فى دول منابع النيل تحافظ على كميات ضخمة من المياه كانت تُهدر عبر المسافات الطويلة والمستنقعات.

بدأت زراعة الأشجار المنتجة للأخشاب فى الصحراء الغربية بالقرب من نهر الحق والمجارى المائية المتفرعة منه ثم بدأت الأشجار فى النمو والمساحات المزروعة فى الاتساع حتى تحولت الصحراء الغربية مع السنين إلى "الغابات الغربية" التى أصبحت تنافس غابات الأمازون أكبر غابات العالم.

التغير الذى حدث للصحراء وتحولها إلى مناطق خضراء.. إلى غابات.. غيَّر من الطقس الصحراوى المعروف فى المنطة وأصبحت الأمطار تسقط بكثافة معظم أوقات العام خاصة تلك الناتجة عن السحب الكثيفة الآتية من اتجاه البحر المتوسط فى شمال البلاد.

شركة صناعة الأخشاب وهى شركة مملوكة للدولة كانت تتعامل مع الغابات الغربية بمنتهى الاتزان خلال السنوات الأولى من زراعة الأشجار حتى تكاثرت بالفعل وأصبح بعضها صالح لقطعه واستخدام أخشابه .. فكان العاملون فى الشركة ينتقون الأشجار بعناية وعلى مسافات متباعدة حتى لا تفقد الغابات طبيعتها دائمة الخضرة.. فلا يتم قطع شجرتان متجاورتان مهما كان الأمر، وظهرت "وزارة حماية الغابات" إلى الوجود لتتابع العمل فى الغابات وتحد من العديد من الظواهر التى انتشرت مع الوقت مثل عمليات التهريب الكثيرة التى كانت تأتى عبر الحدود الغربية، وتقف بالمرصاد لتدفقات الهجرة البشرية، وعمليات سرقة الأخشاب النادرة، والأكثر هو التصدى لمكافحة الجرائم الشبابية التى وجدت فى تلك الغابات المكان المناسب لها وهى غالبًا ما كانت تتم فى رحلات التخييم والحفلات الراقصة التى أُطلق عليها اسم "الحفلات الخضراء" وهى التى كانت تتحول فى معظم الأوقات إلى حفلات دموية بعد تلك الحالة الهيستيرية التى يُصاب بها الشباب بعد تناول العقاقير والمشروبات الروحية، وممارسة مختلف أشكال إستخراج الروح من الجسد.   

ولنترك تلك الغابات الغربية التى تمتد على مساحة آلاف الأفدنة، ونمعن النظر فى تلك البقعة الصغيرة على الخريطة والتى لا تكاد تظهر على محرك بحث google earth  إلا بعد التكبير عدة مرات وسوف تظهر مثل سن دبوس حاد. إنها المنطقة المسماة بـ "المقاطعة التاسعة"، تلك المنطقة التى حدثت فيها سلسة الجرائم الغامضة والمثيرة والتى أصبحت حديث مختلف وسائل التواصل الإجتماعى على المستوى العالمى وبالتحديد على شبكة التواصل العالمية الموحدة المعروفة باسم worldbook فقد أصبحت الترجمة بين كل لغات العالم متاحة للجميع، فقد أصبح من المتاح (فى هذا التوقيت من نهاية القرن الحادى والعشرين) تحويل الصوت المنطوق إلى أى لغة تختارها عبر أيقونات صغيرة تصاحب ظهور أماكن النشر .. بل وظهرت مؤخرًا خاصية اختيار الترجمة إلى أكثر من لغة فى نفس التوقيت، ولما كانت العامية المصرية آخذة فى فرض نفسها فقد وجدت المصطلحات العامية طريقها إلى القواميس الإلكترونية، فأصبح فى إمكان كل شخص أن يحدد اللغات التى يرغب فى نشر موضوعه بها ثم يتحدث إلى صفحة هاتفه المرتبطة ببصمة صوته حتى يتم تحويل الصوت إلى مادة مكتوبة ومادة صوتية بمختلف لغات العالم، وهكذا تحول العالم كله، بفضل ذلك التطور التكنولوجى، إلى كتاب عالمى تجلس أمامه وتقلب صفحاته، ولست وحدك .. إنما كل سكان كوكب الأرض يفعلون ذلك. وها هى الجريمة الغامضة التى حدثت فى المقاطعة التاسعة من مقاطعات الغابات الغربية العشرين تحتل المرتبة الأولى فى حوارات الـ  worldbook وظهرت دعوات تطالب شركات السياحة بتوجيه رحلات سياحية إلى هذه المقاطعة .. لكن القيادة السياسية أصدرت بيانها على الفور تؤكد فيه أن المقاطعة التاسعة فى الغابات الغربية أصبحت منذ "ساعة تاريخه" منطقة محمية بنظام "الأمان الديكتاتولوجى" وهو نظام يجعل للدولة الحق فى فرض حظر تجوال فى المنطقة بل وفرض حظر شامل بحيث يُمنع خروج أو دخول أى فرد منها أو إليها.

لم تضع القيادة السياسية وقتًا معلومًا لنهاية "الأمان الديكتاتولوجى" وهذا ما جعل أهل المقاطعة التاسعة ينظرون إلى الأمر على أنه نوع من فرض الإقامة الجبرية عليهم لأنه لم يسبق خلال عشرات السنين الماضية أن فرضت الجكومة نظام "الأمان الديكتاتولوجى" إلا وحددت فيه موعد البداية وموعد النهاية بمنتهى الدقة.

عدد سكان المقاطعة التاسعة قليل وعدد البنايات فيها قليل يتخللها المجرى النهرى التاسع المتفرع من "نهر الحق" وكل مبنى عبارة عن طابق واحد فقط يظهر فوق الأرض يتوسط حديقة واسعة تفصله عن البنايات المجاورة، وهو إن كان طابقًا واحدًا فوق الأرض فهناك ثمانية طوابق تحت الأرض ليكتمل عدد أدوار كل بناية إلى تسعة طوابق تبدأ من الأول ثم تنحدر إلى الأسفل حتى الطابق التاسع. والحقيقة أن ذلك التصميم لبنايات المقطعات العشرون المنتشرة فى الغابات الغربية يعود إلى المهندس والسياسى "حاتم عز الدين" والذى أتخذ منها ملاجئ للوقاية من أى كارثة عالمية محتملة كالحروب أو انتشار وباء عالمى .. قبل أن تكون سكنًا عائليًا قررت الجهات الرسمية فى البلاد بناءه بعد فترة من طويلة من الصراعات الطبقية.

التعليقات