"الكتابة وطقوسها عملية معقدة، فيها ما هو عام وقد تجده عند كل الفنانين، وفيها ما هو خاص بكل فنان على حدة. وكلما زادت مساحة الخصوصية كلما سما الفن المكتوب، والفن عمومًا، واقترب من المعاني الإنسانية العميقة."، وفي "ما وراء الكتابة: تجربتي مع الإبداع" قدم إبراهيم عبد المجيد تجربته مع الإبداع، راويًا لنا مجموعة أحداث من حياته الشخصية ومواقفه الحياتية من بعض الأحداث الاجتماعية والسياسية التي تزامنت مع كتابته لأعماله، والتي مثلت جميعها الكواليس لأعماله الأدبية البادئة بالقصة القصيرة عام 1969، ومن ثم أولى رواياته المنشورة "المسافات" عام 1977، حتى روايته "أداجيو" الصادرة عام 2014، مرورًا بكافة اعماله الأدبية من الروايات والقصص القصيرة.
ويعد الكتاب عرض تحليلي لما مر به الكاتب خلال رحلته الأدبية، وقُسم الكتاب المكون من 326 لأربعة أقسام رئيسية، تناول القسم الأول 4 روايات وهي (المسافات- الصياد واليمام- ليلة العشق والدم- بيت الياسمين)، وتناول القسم الثاني الإسكندرية موطن الكاتب وثلاثيته الشهيرة عن الإسكندرية (لا أحد ينام في الإسكندرية- طيور العنبر- الإسكندرية في غيمة)، فيما تناول القسم الثالث 5 روايات وهي (ما وراء برج العذراء- عتبات البهجة- في كل أسبوع يوم جمعة- هنا القاهرة- أداجيو)، وفي الختام تحدث عبد المجيد عن القصة القصيرة بشكل عام وقصصه، وفي النهاية عرض قصته "الطريق إلى العشاء".
القسم الأول
المسافات
تحدث عبد المجيد في أولى صفحات كتابه عن روايته "المسافات"، وهي ثاني رواية كتبها بعد "الصيف السابع والستين" التي تأخر نشرها فأتت بعد المسافات كثاني رواياته، كما ذكر تجربته مع القصة القصيرة وكيف تأثر في البداية ومشي وراء اللغة أكثر مما ينبغي وظهر ذلك جليًا في قصته "شمس الظهيرة".
ووصف عبد المجيد "المسافات" بأنها مثلت الحرية بالنسبة له، فكتابه لها جاءت بعد تحرره من فكرة العمل الحزبي الماركسي الذي مثل ضاغطًا على روحه الأدبية، وجاء ذلك بعد التظاهرات ضد السادات التي اكتشف خلالها غياب كافة الأحزاب، وكيف كان للكاتب والروائي عبد الوهاب الأسواني سببًا في تركه العمل الحزبي.
انتهى عبد المجيد من كتابة "المسافات" المسافات في 3 سنوات، وكان لدراسته الفلسفة الوجودية وولعه بفكرة الاغتراب والاستلاب أُثر على كتابته، كما تأثرت كتابة الرواية بفكرة الأنيمزيم (أي حيوية الطبيعة)، ففي المسافات صنع إبراهيم عبد المجيد الأساطير وفقًا لرؤيته الفلسفية.
الصياد واليمام
قال إبراهيم عبد المجيد أن وراء "الصياد واليمام" كانت رحلته كل يوم لمدرسته الابتدائية والإعدادية ومروره بالسكك الحديدية ومساكن العاملين بها جعل أبطال روايته منهم، وكان في طريقه اليومي للمدرسة بصحبة زميله الذي يهوى صيد الطيور بالنبال يرى صائدي اليمام والعصافير لكن بالبنادق.
وجاءت فكرة "الصياد واليمام" خلال كتابة رواية "المسافات"، فكتبها كقصة قصيرة وبعد الانتهاء من المسافات عاد ليكتبها رواية قصيرة، لتكن أسرع رواياته فكتبها في شهر واحد ولم يعد كتابتها أبدًا، كما قال أن نشرها كان حكاية غريبة، حيث أنه كلما ذهب بها لناشر عاد لأخذها في اليوم التالي، حتى جاء الشاعر محمود درويش إلى مصر ومنحه إياها طالبًا منه نشرها في مجلة الكرمل، وقد وعده درويش بالنشر إذا أعجبته وبالفعل نشرت في الكرمل.
وفي الفصل ذاته ودع عبد المجيد ناصريته بمقاله "ضيعني صغيرًا وحملني دمه كبيرًا"، الذي تحدث فيه عن علاقته بعبد الناصر بداية خطابه الأول له والصور المُهداة من الرئيس لمراسليه بالجوابات، والغارات في حرب السويس، وخطابه الثاني له عام 1962 بشأن أبيه المتقاعد وكيف أثر ذلك على مسار عبدالمجيد ودراسته فدرس الفنية بقسم الكهرباء، كما روى كيف رأى عبد الناصر على بعد مترين ولوح له في أواخر الخمسينيات، كما توقع بعد خطابه في يوليو 67 اقتراب النهاية، وكيف قابل عبد المجيد خبر رحيله.
فكانت تجربة إبراهيم عبد المجيد وحياته بالعهد الناصري وراء احساسه بهزيمة 67 وكذلك وراء احساس صياد اليمام.
ليلة العشق والدم
أكد عبد المجيد فوز المكان بالبطولة ليلة العشق والدم، والمسافات، وصياد اليمام، يليه اللغة والبناء، حيث أدرك من خلالهم أن الزمان والمكان هما من يحدد اللغة والبناء وتطور الشخصيات أكثر مما تحدده الأحداث.
وبعد كتابة ليلة العشق والدم سافر عبد المجيد ليجلب المال ليمن له شقته كما قال متخلصًا من الشقق المفروشة، واختار السعودية ليبتعد عن السياسة، وظل هناك 11 شهرًا ليعود بعدها وتلح عليها فكرة رواية "البلدة الأخرى"، لكن في اليوم الذي حاول فيه البدء وجد نفسه يكتب رواية بيت الياسمين.
بيت الياسمين تقفز
أتت بيت الياسمين بسبب رسائل كانت تأتي لعبد المجيد من صديق له أيام العمل في الترسانة البحرية بالورديان بالإسكندرية، وكان ينوي كتابة رواية عن بناء شركة الترسانة بسبب ما عاشه فيها من أيام تستحق الذكر، وما قضاه أيضًا من أيام عمل في شركة الكهرباء خلال دراسته بكلية الآداب، لكنه بعد قراءة رواية "ليس في رصيف الأزهار من يجيب" للكاتب الجزائري مالك حداد، والتي تركت في نفسه رغبة في إعادة صياغة العالم من حوله، وجاءته الفكرة أخيرًا أثناء جلوسه بمقهى ريش، حيث يقدم في كل فصل حكاية خرافية أو عجائبية ليس من المهم أن ترتبط الحكاية بالفصل، لكن المهم أن تثير اسئلة القارئ عن العلاقة وتتسع الرؤية لأكثر من تفسير، وكان هدفه هنا هو تقديم نص أكبر من عدد صفحاته، لتكن رواية بيت الياسمين.
ولم يكمل عبد المجيد ما أراد كتابته عن الترسانة لكنه توقف بعد الفصل الثالث، وكشف عبد المجيد أن أبطال بيت الياسمين في الحقيقة هم أصدقاء حقيقيون له، وبعد بيت الياسمين اكتملت حلقة الكتابة عن اغتراب الإنسان في السبعينيات في مصر، ليستيقظ بعدها حلمه القديم بالكتابة عن الإسكندرية.
القسم الثاني
الكتابة عن الإسكندرية
يحكي إبراهيم عبد المجيد عن طفولته وصباه في الإسكندرية متفاخرًا بانتمائه إليها، ويتوقف عبد المجيد في ذلك الفصل عند ثلاثة قرون ميلادية في تاريخ الإسكندرية، وهي القرون التي سبقت الاعتراف بالمسيحية في الفرن الرابع وكيف أًصبحت الإسكندرية ملاذًا لكل الدنيا والمضطهدين منذ البداية وحتى ثورة يوليو 1952، فبعد 1956 أُخرج اليهود دون تفرقة بين اليهود والصهاينة.
لا أحد ينام في الإسكندرية
بدأ إبراهيم ذلك الفصل متحدثُا عن بدء روايته عام 1958، حين كان صبيًا يبلغ من العمر 11 عامًا ذهب مع أبيه لبرج العرب، وكيف كانت تلك الزيارة وراء كتابته للقصة القصيرة "كان يعرف اسماء البلاد"، والتي شرع بعدها في كتابة روايته لا أحد ينام في الإسكندرية مستغرقًا 6 سنوات، حيث بدأ في كتابتها عام 1990، حين كان في طريقه مع أسرته إلى مرسى مطروح، وتوقف في طريقه بالعلمين ليجد أمامه متحف العلمين الصغير ومنه ذهب لمقابر الكومنولث، وهناك بدأ الماضي يستيقظ حيث دارت هناك الحرب العالمية الثانية.
ورغم معرفته بتاريخ الإسكندرية والتي كانت دافعًا قويًا على الكتابة إلى جانب ذكرياته بها، لمن الحياة اليومية هي حياة الرواية، لذا اتجه الكاتب لدار الكتب المصرية لتبدأ رحلته مع الصحف وبالأخص الأهرام قارئًا ما حدث في البلاد بدايةً من سبتمبر 1939 حتى نهاية نوفمبر 1942، بالإضافة لرحلاته إلى الإسكندرية عامةً وإلى مواقع الأحداث خاصةً، وإلى الساحل الشمالي حتى مرسى مطروح، وكانت وزياراته مفصلة للأماكن فيزور الأماكن صباحًا ومساءً، صيفًا وشتاءً، ماشيًا حافيًا على الرمال مستشعرًا ملمس الرمال، ترك روحه تتشبع بالتجربة تمامًا، حتى ظهر ذلك جليًا في كل سطر من سطور الرواية.
وكان شكل الصفحة الأولى لجريدة الأهرام ملهمة لشكل رواية عبد المجيد، حيث تجد في صفحات الأهرام خبر جادًا ثم آخر عن السينما أو الفن، لتجد الحياة في الرواية تمضي سعيدة وسط الحروب.
كما كشف عبد المجيد عن تعايشه التام مع شخصيات الرواية وكيف كان ذلك سيودي بحياته يومًا، واختتم الفصل عارضًا دراسة تمهيدية حول ساحل مريوط.
طيور العنبر
يتساءل عبد المجيد من خلال روايته طيور العنبر عن أين ذهبت روح التسامح التي ظللت حياة الإسكندرية لقرن ونصف؟، أين ذهبت عالمية الإسكندرية؟، واستغرقت كتابة الرواية 3 سنوات، حيث كان يذهب بصفة دورية إلى الإسكندرية كل يوم جمعة.
وكانت العديد من شخصيات الرواية حقيقية، ومنهم خير الدين الذي كانت صديقًا فعليًا للكاتب، حيث عرض عبد المجيد خطابًا من صديقه خير الدين له، كما كشف عبد المجيد عن قراءته الكثير من الكتب لتصل شخصياته إلى الصدق الفني بالمعرفة في رسم الشخصية وتغيرات سلوكها.
وأوضح عبد المجيد كيف أخذت ترعة المحمودية بالإسكندرية من العدم إلى الوجود، فجعلت من الإسكندرية مدينة بحرية وريفية معًا، حيث كانت المحمودية الجانب السحري الأول في الإسكندرية، فمعظم شخصيات الرواية تعيش بالقرب من ترعة المحمودية.
وذكر عبد المجيد في ذلك الفصل كيف كانت الإسكندرية هي مدينة السينما الأولى في مصر، وكيف كانت السينما العنصر التثقيفي الأكبر له، حيث كانت السينما هي الجانب السحري الثاني للمدينة.
وجاءت الملاهي الليلية هي الجانب السحري الثالث للإسكندرية، فكانت أحد الوجوه الكوزموبوليتية للمدينة.
وكانت طيور العنبر أكثر تعقيدًا بالنسبة لعبد المجيد لتعدد شخصياتها، وكان الأصعب هو تعدد اللغات بين الشخصيات بين الأجانب والمصريين وبين المتعلمين وغير المتعلمين والمثقفين وغير المثقفين.
قونشيد تمجيدها، فرواية لا أحد ينام في الإسكندرية بالنسبة لعبد المجيد مفصل تاريخي كبير وهو الحرب العالمية الثانية الني خرج أول انتصار للحلفاء على المحور منها، أما طيور العنبر فهي رواية عن مفصل آخر وهو تحول المدينة عن وجهها الشمالي إلى وجهها الجنوبي، حيث تحولت من الكوزموبوليتية إلى المحلية.
الإسكندرية في غيمة
عشر سنوات بين الإسكندرية في غيمة وطيور العنبر، 3 سنوات ليخرج عبد المجيد رواية عن المدينة التي غزتها أفكار الصحراء الوهابية والسلفية فضاع ما تبقى من المدينة الكوزموبوليتية والمصرية أيضًا.
وفي نهاية الفصل أوضح عبد المجيد أن ثلاثية الإسكندرية متتابعة عن المدينة في تجلياتها الثلاثة، وليس عن أجيال تتابع، وللربط بين الثلاثة اختار الشخصيات الثانوية ليربط بينهم ومنهم حمزة الذي ظهر في لا أحد ينام في الإسكندرية ثم عاد ليظهر من جديد في طيور العنبر، ونوال التي ظهرت في طيور العنبر وعادت لتظهر في الإسكندرية في غيمة، وأيضًا رشدي الذي ظهر في لا أحد ينام في الإسكندرية ليعود مرة أخرى في الإسكندرية في غيمة.
القسم الثالث
ما وراء برج العذراء
قال عبد المجيد عن رواية برج العذراء انها قد انبتت في روحه فجأة، مفسرًا ذلك بأن عالم الرواية يهمس له، وعادة ما يقرر أن ما هُمس له بها هو روايته القادمة، ثم يتأجل ذلك لكنه يعرف إنه قد تسرب في مكان ما من الشعور أو اللاشعور في مكان أقرب إلى البرزخ وقد يمتد هذا الوقت لعام أو حتى 20 عام حتى يأتي اليوم الذي تفيض فيه الروح على الجسد فيبدأ في الكتابة.
برج العذراء مختلفة لعبد المجيد فلم يهمس له بها لكنه أمر بها فلم ينسها وبدأ في كتابتها على الفور، والذي أمره ليس دار نشر ولا رغبته في النشر، أنما كان ميقات ندر حدوثه، فوضى عارمة في الحياة الثقافية المصرية بسبب نشر رواية "وليمة لأعشاب البحر"، وعلى الجانب الشخصي كان يمضي كل وقته بجانب زوجته المريضة بالسرطان، فبدأ عبد المجيد يكتب غاضبًا عن سرطان بالبيت وسرطان بالمجتمع، منطلقًا بكثافة، لكنه توقف عامًا كاملًا عن الكتابة بعد وفاة زوجته، حتى وقعت صدفة والتقى وجها لوجه مع سيدة خفق له قلبه بشدة حين رآه منذ 20 عامًا، أمضيا معًا 3 أشهر ولكن انتهت القصة سريعًا لأسباب غير واضحة، ليعود بها للكتابة من جديد.
كتبت برج العذراء 5 مرات، حذف منها فصلًا كاملًا، وحذفت صفحات كاملة لأنها تشي بشخصية معروفة، كما لم يفصح عبد المجيد عن اسماء الأماكن والشوارع بالرواية لأنها تعد مفارقة للواقع ولأي واقع، لكن القارئ سيدرك أنها القاهرة.
عتبات البهجة .. سعاد حسني
كانت عتبات البهجة ابنة حياة مرتبكة لكنها لم تكن مؤلمة، المؤلم فقط هو الشريان التاجي الذي ألزم عليه المشي يوميًا 3 كم، والذي رافقه بها يوميًا صديقه شاعر العامية محمد كشيك، والذي كان مولع بمعرفة الأدوية والنباتات والعطارة.
حكى عبد المجيد في هذا الفصل عما قابله مع كشيك خلال سيرهما اليومي، من بائعة الشاي ومحل حراز للعطار ومشاهدته لفيلم "عربة اسمها الرغبة" لجيسيكا لانج وإليك بللدوين، وكل ما أثر فيه ليكتب عتبات البهجة.
وبعد أن تقدم في كتابة الرواية حتى منتصفها، أعاد كاتبها مرة أخرى بضمير المتكلم، كما منح محمد كشيك شخصية حسن بالرواية، وبعد أن تقدم في كتابتها مرة أخرى وجد نفسه يقفز فصلين لا يكتبهما منتقلًا لما يليهم، حيث ذهب مرة أخرى لمحل حراز حتى يتأمله، والفصل الثاني فيه حديث عن الكلاب فذهب لسوق السيدة عائشة أيضًا ليتأمله، ولم يستغرق الأمر في المكانين سوى دقائق، وكانت المفاجأة حين وجد نهاية روايته بمقهى في شارع صلاح سالم.
كانت عتبات البهجة كلها مواقف لا يصل البطل إلى نهايتها، حيث تنتهي على عكس ما أراد بسرعة، وقال عبد المجيد أن الإلهام ليس من الأفكار لكنه أحداث وبشر في الطريق.
ووضع الكاتب لكل فصل في روايته عنوانًا ثم جعله سؤالين، وتعد هذه الرواية من أسهل ما كتبه عبد المجيد للقراءة.
وفي الفصل ذاته تحدث عبد المجيد عن سعاد حسني ورحيلها وكيف أثر ذلك عليه، حيث ظل 5 أيام محاولًا كتابة مقال عنها حتى انسابت مقطوعة البوليرو فتحرك معها القلم كاتبًا عن سعاد مقالًا بعنوان (لماذا يا ربي كلما اقتربت منا البهجة ابتعدت عنا؟)، وذلك ما غيره عبد الله السناوي رئيس تحرير جريدة العربي الناصري واضعًا عنوان المقال (العروس التي زفت نفسها إلى الموت).
واختتم عبد المجيد هذا الفصل مشيرًا إلى روايته شهد القلعة، والتي تعد ابنة لرواية عتبات البهجة، والتي تدور حول مسألة ميل الرجال بعد سن الـ 50 للنساء الصغيرات، وتدور أحداثها في عمان، وقد ظهر تأثير كتابة السيناريو على عبد المجيد في تقطيع المشاهد والانتقال في الزمان بإيقاع سريع وبتشويق سينمائي أكثر منه أدبي.
في كل أسبوع يوم جمعة
كتب عبد المجيد عن المدن كثيرًا فكتب عن الإسكندرية والقاهرة وصحراء سيناء وكذلك عن أحد المدن السعودية، لذا فكر عبد المجيد في الكتابة عن المدن بشكل جديد فاختار المدن الافتراضية، وكان قراره كيف يستخدم أقل إمكانيات الإنترنت في الكتابة، فاختار ابسط عناصر الموقع، حيث أنه يكتب عملًا أدبيًا لا ينقل تقنية فنية.
وكان للتقنية الفنية دور في الكتابة فظهر الإيجاز واللغة العامية التي غلبت على الرواية بشكل كبير، وهو ما يفعله عبد المجيد إلا نادرًا.
كان توزيع الشخصيات في الرواية على الأسابيع أمرًا هامًا حيث لا يتشتت القارئ، والأهم لغاتها التي تتحدث بها، حيث تعددت اللغات بتعدد الشخصيات ومواضعها الاجتماعية وإمكاناتها الثقافية، كما تعكس الرواية قهر النساء في مصر ولا يوجد متنفس حرية لهن سوى الفضاء الإلكتروني.
وكشف عبد المجيد عن كيف جعلته شخصية مختار كحيل يتناول حبوب الترامادول، لكن جاء التناول على مسافات فلم يدمنه، وبانتهائه من كتابة الرواية تخلص من آخر حبة ترامادول.
هنا القاهرة.. أخيرًا احببتها
تعد هنا القاهرة رواية للزمان أكثر من الزمان، فكر فيها عبد المجيد قبل 30 سنة من نشرها، وكان وراءها تلك الأيام التي قضاها في شبابه مع صديقه الراحل سامي صلاح الأستاذ بمعهد الفنون المسرحية، والذي ظل سؤاله متى ستكتب حياتنا معًا؟، ومع مرور السنين علم بوفاة سامي صلاح عاد السؤال مجددًا.
وبعد الثورة حدث لعبد المجيد ما حدث لغيره من الكتاب وهو العودة للماضي، وكانت الإسكندرية في غيمة قد فتحت الباب لهنا القاهرة، كما فتحت وفاة سامي صلاح قبل الثورة النافذة للكتابة.
وذكر عبد المجيد أن شخصيات الرواية الرئيسية غالبًا هي من أكثر من شخصية قابلها في حياته أو تخيلها وامتزجت معًا لتصنع شخصية واحدة، وبعد هذه الرواية أحب عبد المجيد القاهرة وزال شعورها بالغربة فيها.
أداجيو
بدأ عبد المجيد الفصل الأخير من القسم الثالث بسؤال: هل يمكن الانتصار على الموت؟
11 عامًا ليحضر إبراهيم عبد المجيد أداجيو التي مر بتيمتها الرئيسية وعاشها تمامًا، حيث عاش مع زوجته معاناة مرض السرطان مستمسكًا بالأمل في مواجهة الألم منتظرًا المعجزة التي ستشفي زوجته، فحين بدأ كتابة أداجيو سالت دموعه في منتصفها كما حدث وسالت دموعه في السطر الخامس من قصة الحب الضائع.
كانت أداجيو قصة حب في زمن الخراب، وساعده فيها حكايات اصدقاءه عن الخراب الذي حل بمنطقتي الهانوفيل والعجمي بسبب المياه الجوفية، أما بطل الرواية سامر الريدي فقد قرر أن يتحدى الموت مؤمنًا بأن الله لن يخيب رجاءه.
ملأت الموسيقى الكلاسيكية فضاء الرواية، فالبطلة ريم عازفة بيانو عالمية، وكان زوجها سامر يهوى العزف أيضًا لكنه غير محترف، وبسبب مرضها يسكنا في فيلا بالعجمي التي هجرها السكان بسبب المياه الجوفية، حيث لا يوجد بشر فهي لا تريد أن يراها أحد في محنتها.
وكانت الموسيقى هي التحدي الأكبر لعبد المجيد، حيث أراد أن يسمعها القارئ، فاستخدم عالمًا موازيًا لها من وصف المكان وسامر يسمعها أو يعزفها.
أختار عبد المجيد "أداجيو" البينوني الإيطالي عنوانًا، حيث ينساب هذا اللحن الحزين دائمًا وسط الليل – بطئ حزين كما يدل الاسم بالإيطالية.
وجاءت مقطوعة أداجيو بعد أن مر أكثر من نصف الرواية، حيث أراد أن يشعر القارئ بالرواية كلها كأنها الأداجيو نفسه حتى إذا جاء ذكره كان أشبه بالإشارة الأخيرة.
القسم الرابع
القصص القصيرة
في هذا الفصل ذكر عبد المجيد الاختلاف بين ما وراء كتابة كلا من القصة القصيرة والرواية، فإحساس القصة القصيرة أعمق وقد يكون أكثر إلحاحًا على الروح، لكنه كلما يأتي بسرعة يخرج بنفس السرعة.
وحكي عبد المجيد من خلال هذا الفصل كيف كانت البداية في كتابة القصص القصيرة في نهاية الستينيات، قائلًا أن كل القصص كان لها أصل في الخيلة لكن هذا الأصل لم يكن لينمو هذا النمو ولا ينتهي تلك النهاية، كما ذكر كيف كان يوسف إدريس السبب في توقفه عن كتابة القصة القصيرة لمدة عام كامل.
ويشغل عبد المجيد في كتابة القصة القصيرة الإيحاء أكثر من الوضوح، والإيجاز فيما يريد إيصاله للقارئ.
وذكر خلال هذا الفصل أيضًا ما وراء قصصه من مواقف في الحياة اليومية، فكل القصص كانت تكتب بعد وقت يطول أو يقصر لكن كانت تسكن روحه حتى يفيض بها قلمه.
الطريق إلى العشاء
والفصل الثاني (الأخير) فرده إبراهيم عبد المجيد للقصة القصيرة "ما وراء العشاء"، والتي كتبت عام 1991، وكان وراءها شارع هادئ ومخصص للمشاة فقط في بلاد يحكمه نظام قمعي.
وبذلك وضع الكاتب إبراهيم عبد المجيد خلاصة تجربته في الكتابة وما مر به على مدار حياته مؤثرًا فيه فكانت بذور زرعت بروح الكاتب لتنبت بعدها روايات وقصص مختلفة، يعطيك عبد المجيد سرها في كتابه "ما وراء الكتابة: تجربتي مع الإبداع".
وصدر "ما وراء الكتابة: تجربتي مع الإبداع" عن الدار المصرية اللبنانية عام 2014، وحصل الكتاب على جائزة الشيخ زايد للآداب عام 2016، وقيمتها 200 ألف دولار.
التعليقات