لقد تحولت بتول من امرأة شفافة كجلد الوليد إلى امرأة تتمرغ في لجج الأسرار والأكاذيب، شعورها بالذنب يتزايد مع كل رسالة تأتيها أو ترسلها.
عزائها الوحيد أن علاقتها بباسم لم تخلو من الاحترام المتبادل لم تحتج يوماً أن تنبهه لتجاوزٍ ما، بل كان يبذل جهداً بدوره حتى لا تشوب العلاقة بينهما شائبة.
ورغم تحاشي بتول للحب وقدرتها على البقاء حازمة وصلبة لكنها كانت تهفو إلى الحب في أعماقها، فعندما كانت تتلقى منه رسالة جديدة لم تكن تتمالك نفسها عن الابتسام نصف مبتهجة ونصف محرجة مما يحدث لأن شيئاً ما كان يحدث, عندما تلتقي بشخص يختلف عن جميع من حولك ويرى فيك من لا يراه الآخرون يجعلك تغير منظورك للحياة وترى كل شيء وكأنك تراه لأول مرة ويخيل إليك أنه بإمكانك الإبقاء على مسافة آمنة بينك وبينه يجذبك الكمال الذي يعكسه نقصك عندما تراه أو تسمعه تأسرك كلماته دون أن تدري متى وكيف أصبحت أسيراً؟!,
كانت تضحك على مزحاته كما لو لم تضحك أبداً لكنها كانت ضحكة بعَبرة, ضحكة بغصّة تفسد عليها سعادتها, لكن لم يمنعها ذلك يوماً من المراسلة بل لم يعد تبادل الرسائل كافياً , أصبحا الآن يتحدثان على الهاتف كل يوم تقريباً, كانت تهيم مع صوته الدافئ الذي يصل بها إلى القمر فيراقص روحها على ألحانه, كان شلال هادر ينطلق بكل طاقته, لكنها تسمع ولاتنصت, تشعر ولا تستشعر, تُعايش ولا تعيش, ماذا تفعل وقلبها ليس هنا لقد كتب فريد على قلبها أن لا مساس يحاول باسم أن يلملم فتات الأنثى التي بداخلها بصوته الحاني لكنه يلملم ولا تلتئم يحضن بهمسهِ ولا يحتضن, يلقي القبض على روحها تهيم بين طيات قلبه فتستسلم روحها قطعة تلو الأخرى .. ثم تستفيق من غيبوبة النشوة فتدرك أنها لم تكن معه ولم يكن هو فتسقط من أحلامها على الأرض دون مظلة تقيها الاصطدام.
فكرت كثيراً أن تصارح زوجها أن تحتمي فيه من العاصفة المنتظرة قبل أن تعصف بحياتهما معاً, أرادت أن تتمسك بآخر رمق قبل أن يتسرب هو من بين طيات قلبها كحفنة الماء التي تنسلت قطرة تلو الأخرى لكن نظراته الباردة التي كان يرمقها بها كانت تعيدها إلى صمتها.
لاحظ فريد أن شيئاً غريباً قد طرأ على سلوك بتول, شرود مستمر ولمحات حزن باتت واضحة في عينيها غير توقفها عن ملاحقته بالأسئلة عندما يتأخر وعن ترجيها له في أن يصطحبها معه, لاينكر أنه قد ارتاح من البحث عن أعذار وخاصة بات العمل ذريعة مكررة طال استخدامها .
لكنه كان يشعر بشئ ما, بيد أن للخيانة رائحة . بدأ يسألها من حين لأخر هل أنت على مايرام ؟ وتجيبه دائما بنعم أنا على مايرام مثل الجبل .
بدأ يقضي وقتاً أطول معها فجأة, ويعود إلى البيت في وقت مبكر. كان يتابعها بنظراته, ينتظرها أن تقول شيئاً أو أن يحدث شيئاً .
انكفائها وصمتها كانا يخيفاه, كان حزنها صامتاً لاوسائد مبللة ولا نشيج أمام مغسلة المطبخ .. عاد فريد مبكراً قبل موعد العشاء وطلب من بتول أن يصطحبها للعشاء خارج المنزل هو وهي فقط وكان ذلك آخر ماتريد بتول أن تفعله ولكنه أصر, ذهبا سويا إلى مطعم ساحر تزينه مصابيح بأنوار خافتة جدرانة مليئة بمرايات عديدة كانت تعكس خيالات الزبائن الحالمة, لكن بتول لم تسعد بكل ذلك أو تعيره انتباهاً فكان يشغلها القلق الذي كانت تشعره في عينيّ زوجها, رأهما النادل فصاحبهما على الفور للمائدة التي تم حجزها من قبل مكتب فريد, جلست بتول بعد أن ساعدها فريد بأناقة ولكن كانت عيناها تلاحق عيناه, في حين أن النادل ينتظر أن يدون مايطلبانه فطلب فريد طبقه المفضل دجاج بالكاري وبعض السلطات أما بتول أوكلت لفريد تلك المهمة, فماتراه في عينيّ زوجها أفقدها شهيتها, انصرف النادل بدأ يتحدث فريد عن أناقة المطعم ولم تبادله بتول الحديث بل إماءات رضا عما يقول , ثم ساد بينهما صمت خانق, شرد كل منهما في سنوات الزواج الطويلة كيف مرت؟! ثم بدت آنّة من فريد ثم قال بتول أنا أعرف ماذا يحدث؟ وما حدث؟ - عمّ تتحدث؟ عن علاقتك بباسم .. - علاقتي بباسم ردت بتول صارخة في اندهاش وربكة, فلاحظت أن الزبائن الجالسين في الطاولة المقابلة التفتا نحوهما فشعرت بالحرج, تابعت خافضة صوتها, عن أي علاقة؟ وقبل أن يجيبها زوجها أردفت في تلعثم,
- إنه مجرد كاتبي المفضل
وقبل أن تكمل قاطعها فريد (أنا لست غبياً, لقد فتحت بريدك الإلكتروني وقرأت رسائلك) نظرت إليه في وهج الشمعة التي أشعلها لهما النادل فبدا وجهه بائساً مثقلاً بإعترافه (أنا لا ألومك فأنا أستحق لقد أهملتك وتركت لكي قدر من الفراغ العاطفي مما جعلكي هشة أمام أي طارق .. إني مستعد أن أسامحك وننسى ماحدث ونعطي لحياتنا وحبنا فرصة أخرى من أجل أولادنا)
أرادت بتول أن تتحدث عن أمور عدة لكنها كانت متوترة ومرتبكة وخجولة وتتحرك يداها على المائدة بحجة إعادة ترتيب الأشياء عليها, بعد استنشاق عميق مصاحب بتنهيدة ساعدتها على بعض التماسك سألته (وماذا عن علاقاتك أنت؟ ماذا عن انغماسك في عملك؟ ماذا عن أصدقائك وصديقاتك؟ هل سننسى هذا أيضاً ونخلفه وراءنا؟) هل مافعلتيه كان انتقاماً بتول؟
- لا لم يكن انتقاماً لم تكن لدي أي نية يوما ما في أن أنتقم منك , أنا حتى لم ألتق بباسم يوما , فقط كل شئ حدث لا أدري كيف حدث؟ ولماذا حدث؟
لقد ارتكبت خطأً كبيراً لكني لم أكف عن حبك ولم أحب أحداً غيرك نستطيع أن نتعلم من أخطاءنا نستطيع أن نزيل العقبات التي تبعدنا عن الحب .. ثم أمسك يدها برفق أعترف أني أعلم أنكِ شديدة الرومانسية ولم أعير ذلك اهتماماً عودي بتول أرجوكِ.. قاطعهما النادل عندما أحضر العشاء فصمتا وراحا يراقبانه وهو يضع الأطباق على المائدة, بعد أن انصرف النادل نظر فريد إلى بتول منتظرا أن يحدث شيئ أو أن تقول شيئاً.
ولكنها قالت وهي تمسك حقيبة يدها هل يمكننا الانصراف من فضلك فأنا لست جائعة .. ذهبا للبيت يخيم عليهما الصمت وناما تلك الليلة في سريرين منفصلين, وفي الصباح أول شئ فعلته هو أن هاتفت باسم وأخبرته بما حدث وأيضاً بقرار الابتعاد عنه وعن فريد الذي ظلت طوال الليل تفكر فيه لم يدر باسم بماذا يجيب لم يكن ينوي يوما أن يهدم بيتها فكل ماحدث حدث على غفلة منهما بالعواقب لم يكن راضياً عن نفسه وعن قرارها بالابتعاد عن بيتها, أما فريد بعد أن علم بقرارها انغمس في حالة من الاكتئاب وتأنيب الضمير بأنه هو من قدمها سهلة لأي عابر هو من جعلها هشة ضعيفة .. اجتمع أفراد الأسرة على العشاء وأخذت بتول مكانها إلى المائدة وبعد الانتهاء.
قطع فريد الصمت بتنهيدة ومسح فمه بمنديله ثم قال حسناً متجهاً إلى كنانة وتيم ستسافر ماما غداً في رحلة لبضعة أسابيع للنقاهة وأردف قاطعاً على الأولاد اندهاشهم وتساؤلاتهم لن يطول سفرها أؤكد لكما ذلك ثم انصرف عن المائدة وهو ينظر لبتول وعلى وجهه مسحة من الألم.
صعدت بتول للطابق العلوي تستعد للسفر فقد قررت أن تسافر ليلاً فلن تحتمل وداع الأطفال وكان فريد في غرفة المكتب يتربص به التوتر والعجز بأن يرى حب عمره يسرق أمام عينه ويعض على أنامله كلما تذكر رجاءها له بأن يمكث معها هي والأولاد أو أن يصطحبها أو يسألهما يوما عن شئونهم الحياتية ثم يضرب بقلضته ندماً على سطح مكتبه.
استعدت بتول للرحيل حزمت أمتعة قلبها ومرت على غرف الأولاد وقبلتهم بهدوء حرصاً ألا يستيقظا ونزلت السلم بهدوء وعيناها تلقي نظرة أخيرة تودع بها كل شئ ولم تستطع أن تمنع نفسها من البكاء وكحلها ومسكرتها حولا عيناها لعيون الباندا تنظر يميناً محدثة نفسها هذه اللوحة من معرض فرنسي وتلك من آخر هولندي تذكرت كيف أسست ذلك القصر وحدها ولم يعترضها فريد يوما في اختياراتها ووثبت بها الذكريات ليوم لقائها بفريد أول مرة حيث بعد وفاة والدها نضبت صبابة المال الذي تركها فاضطرت للبحث عن عمل وكانت شركة فريد تعلن عن وظائف خالية في طاقم السكرتارية وكانت هي حديثة التخرج فتقدمت وحالفها الحظ بالقبول وكان لأناقتها دور كبير في ذلك.
كانت تحرص دائما على الذهاب قبل مواعيد العمل وفي يوم مر فريد مبكراً على غير عادته على المكتب للبحث عن بعض المستندات التي تلزمه فوجد ملاكاً جالساً منغمساً بين طيات رواية وقدميه ممددة على مقعد آخر يداً تمسك بالرواية والأخرى تداعب شعرها فظل يراقبها دون أن تدري وما أن شعر بأنها بدأت تنتبه لوجوده ألقى التحية بصوتٍ أجش فانتفضت واقفة فطلب منها مستندات لأخر صفقة خاصة بشركته ودخل مكتبه الخاص شارداً في ذلك الملاك الذي رأه وظل على هذا الحال يراقبها في صمت من بعيد يوماً بعد يوم وعندما تشعر هي بنظراته يخالجها الإرتباك فتتسرب غبطة إلى قلبه عندما يرى إحمرار وجنتيها وعندما إزاد الأمر تعمقاً أمر فريقه السري بالبحث عن هويتها فعلم عنها كل شيء منذ ولادتها إلى أن أصبحت أمام عينيه.
وظل يشغلها بنظراته ويتذرع بالعمل لاصطحابها معه في كل مقابلاته ومواعيده وعندما أيقن أن قلبها يخفق باسمه في صمت , فاتحها في أمر زواجهما حينها كادت تقف ضربات قلبها من فرط سعادتها .. استفاقت ومسحت دموعها عندما وقعت عيناها على صورة فريد المعلقة على الجدران فأخذت نفساً عميقاً وسألت نفسها هل توقفت عن حب فريد يوماً؟ وماذا عن باسم هل أحبته؟.
دار رأسها تائهاً في خضم أسئلة لا أجوبة لها سقطت من يدها الحقيبة أمسكت برأسها وانتابها بكاء خنق أنفاسها ورغم شعورها بأن كل شيء يدور حولها وجدت نفسها تسير بخطى مثقلة نحو الصورة المعلقة تحاول خلعها ولم تنتبه لوجود فريد الذي نزل مسرعاً فور سماعه صوت سقوط الحقيبة لم يدري كم درجة من السلم كان يتخطاه في القفزة الواحدة وهرولته حافي القدمين ساعدته على التخفي فأبصرها تحاول خلع صورته فتقدم خلفها بهدوء وساعدها في خلعها فسقطت بتول على ركبتيها عندما رأته ودفنت وجهها المفطور بين كفيها كان الموقف أثقل من أن تتحمله ركبتيها أما فريد نحى الصورة جانباً وأمسك بيديها وخرّ هو الأخر باكياً سانداً جبهتها بجبهته ثم غابا سوياً في نوبة من عناق مبلل بعد سفرٍ طويل.
التعليقات