لقد أصبح لها الآن حساباً على موقع التواصل الاجتماعي وتواصلت مع أصدقاء وأصبحت عضو في مجموعات . سرعان ما أتقنت كل ذلك في وقت قصير كانت تشارك قراءاتها في مجموعات المثقفين وأيضاً تشارك ما طهته من طعام في مجموعات الطهي , استمرت هكذا لشهور مستمتعة بعالمها الافتراضي الجديد , وفي يوم عثرت على الصفحة الشخصية لكاتبها المفضل الذى كانت تحرص على اقتناء قصصه ورواياته ومتابعة بابه الأسبوعي في الجريدة التي كان يحررها وتتابع أيضاً جميع لقاءاته التلفزيونية بشغف , فتصفحت الصفحة بتمعن ودقة, وأثناء ذلك جال بخاطرها أن ترسل له الرسالة التالية : السيد: باسم أيوب أنا بتول, قارئة ومتابعة جيدة لجميع أعمال سيادتكم, سعدت كثيراً لعثوري على صفحتكم عبر موقع التواصل مما سيتيح لي الفرصة للمتابعة المباشرة .. نشكر الله الذي جاد علينا بمثلكم .. تحياتي بتول. لم تتوقع أن يرد على رسالتها ولا تدري لماذا أرسلت إليه, لكن كل ما تعلمه أنها سعيدة بهذا اللقاء وإن كان من طرف واحد. ... في إحدى الليالي التي يتأخر فيها فريد كعادته فتحت بريد حسابها الاجتماعي حتى تقطع أرق الانتظار فوجدت عدة رسائل وعديد من المغازلات التي لا تروق لها تفقدتها بنعاس وعدم اكتراث لكنها وجدت من بينها رسالة من باسم لم تصدق ما رأته فاتسعت حدقة عينها وفغر ثغرها ثم تماسكت لتقرأ رويداً رويداً. عزيزتي بتول, (إذا سمحتي ليّ أن أقول ذلك) أثني على أسلوبك الأدبي الذي أثنيتي به عليّ وأسأل الله أن يجعلني خيراً مما تظنين بي , لقلبك السعادة .. شكراً جزيلاً .. تحياتي, المخلص باسم أيوب. أغلقت بتول حاسوبها الجوال وقد غمرها شعور بالسعادة سرق منها نُعاسها وإرهاقها وظلت تتأرجح في مخدعها يميناً ويساراً, تهب جالسة وتحتضن ركبتيها تارة ثم تعود وتستلقي على ظهرها أخرى .. إلى أن عاد فريد في وقت مبكر من صباح اليوم التالي ولكنها تظاهرت بالنوم لتجنّبه تفسير تأخره كالعادة ثم خلدت للنوم سويعات قليلة قبل بداية اليوم التالي وعندما استيقظت عادت الحياة إلى مساراها المعتاد بعد تناول وجبة الإفطار التي تحرص بتول على إعدادها يومياً, ذهب زوجها والأولاد كلٌ في طريقه , أما هي بدأت عملها الروتيني اليومي من متابعة تنظيف المنزل وطهي الطعام وإعطاء الإرشادات للعاملين بالمنزل الذين كانت تتعامل معهم بلطف وسخاء وكانوا يكنون لها من الحب الكثير.. بعد الانتهاء من كل ذلك أرادت أن تأخذ قسطاً من الراحة لقد قارب اليوم على الانتهاء وأوشك زوجها وأولادها على العودة, بعد أن حضرت مائدة الطعام بنفسها لتنسيقها كما تحب ووضع لمساتها عليها, فهنا على يمين المائدة إبريق من الماء المثلج كما يحب فريد وعلى يمين كل صحن كوب ماء فارغ وفي وسط المائدة خبز طازج كانت تحرص على أن يصنع في المنزل طبقاً لإرشاداتها فكانت تؤمن دائماً أن رائحة الخبز الطازج عندما تملأ البيت بشكل مكرر تشكل للأسرة صورة لحياة مثالية .. فما من شيء يذَكّر الرجل بيته مثل رائحة خبز مخبوز طازج, وضعت المناديل المتطابقة والشموع المعطرة المشتعلة التي تمنح الغرفة شكلاً مقدساً وباقة زهور البنفسج التي تعطي شعوراً بالدفء العائلي كانت دائماً مائدتها كموائد البيوت الأنيقة.. بعد أن انتهت جلست تنتظر كالعادة على الشرفة في كرسيها الهزاز التي تحب الجلوس عليه كانت الطيور تغرد عائدة لعشائِشها فجلست تحدق في الغروب والطيور وبدت لها السماء قريبة بدرجة أشعرتها أنها تستطيع أن تلمسها وتداعب الطيور المتناثرة في أسراب منظمة.
ثم شردت في رسالة باسم فجال بخاطرها أن تكتب له رداً لحين حضور زوجها والأولاد ففتحت حاسوبها النقال وشردت بماذا تبدأ وعن ماذا تكتب وهل يليق أن تكتب له هكذا وكلما كتبت شيئاً تمحوه وتكتب غيره وظلت هكذا إلى أن سمعت موجات الضحك والهمسات وراء كتفها, عندما التفتت رأت ثلاثة أزواج من العيون تراقبها فأغلقت حاسوبها الجوال بسرعة دون أن تطفئه واستدارت وقالت بابتسامة مساء الخيرات لكم جميعاً وجلس الجميع على المائدة بعد أن أثنوا عليها كالعادة وظل الطفلان يتغامزان على استغراق أمهم في تلك الشاشة على موقع التواصل الاجتماعي .. حلّ المساء خلد الأولاد للنوم وخرج فريد كالعادة في موعد عمل كما يبرر دائماً وعادت بتول لحاسوبها النقال وهمت بكتابة الرسالة التي ترددت بها قبل سويعات رسالة مليئة بالمجاملات والغريب أن رد باسم على الفور وتحولت الرسائل لحديث تعارف دار بينهما ويوماً بعد يوم توالت بينهما الرسائل, وبين رسالة وضحاها أصبحا صديقين حميمين أطلعته عن حياتها ووحدتها وفراغها سطر سطر وكلمة كلمة وهو أيضاً فعل الشىء نفسه. رسائلها كانت دعوة أكثر منها رسائل بل صيحات استغاثة من ربة منزل غير سعيدة . أُم في منتصف العمر عالقة في نافذة زواج باهت رتيب, لقد منحها باسم الإنصات الذي حرمت منه واستمع لها شهوراً طويلة, كانت رسائل باسم كما لو أن أحداً ألقى حجراً في بركة حياة بتول الراكدة . بدأت تستشعر بتول باقتراب باسم منها واختراقه الأديرة السرية لروحها, شردت كيف احتضنها رغم كونه شخصية افتراضية دون أحضان ؟! كيف لمس فتات الأنثى التي بداخلها ؟! كيف امتلك خيوطها من الطرف الآخر من الكرة الأرضية؟! شعرت بالخوف وشردت في الحب الذي غاب عن حياتها وبدأ كل شيء يدور في رأسها وعلى صوت الضجيج داخلها, ولم تستطع أن تقطع حوارها الغاضب الثائر مع نفسها ( بتول لا تستغرقي في أحلام اليقظة لابد أن تعودي إلى أرض الواقع لا تعيشي في ثنايا أساطير الأفلام والروايات الرومانسية, كيف تشعرين بالوحدة وأنتي لديك أسرة كبيرة مُحبة) إلى أن أصبح الهدوء داخلها أمر يصعب تحقيقه, وازداد الأمر صعوبة عندما باغتها باسم في إحدى الرسائل, بسؤال (هل أحببتي فريد يوماً ؟) أجابت: نعم أحبه .. ثم أضافت بعد شرود وتنهيدة عميقة .. آنذاك . (متى توقفتي عن حبه ؟) عندما قرأت تلك السؤال اقتربت من الحاسوب بدهشة وكأنها أمسكت مرآة ودفعتها لوجهها وسألت نفسها, هل توقفتي عن حبه ؟ هذا السؤال لم تطرحه على نفسها من قبل ودت الإجابة على سؤاله ولكن خذلتها كلماتها واكتشفت في قرارة نفسها أنها هي وفريد بدلا من أن يعالجا البرود الذي كان يجتاح علاقتهما يوماً بعد يوم كانا يبحران في مياه الزواج الراكدة ودعا الأيام تمضي واستسلما للروتين الذي هيمن على حياتهما وسار الزمن في مجراه من الفتور الحتمي . كانت الأفكار تحتدم في عقلها مما أشعرها بالإرهاق الشديد وأحست كما لو أن غطاء قدر فيه ماء يغلي قد ارتفع فجأة . توجهت إلى المطبخ أعطت العاملة عطلة وراحت تفعل ما تفعله دائماً عندما ينتابها قلق فالمطبخ في حياة بتول هو المكان الوحيد الذي يمكنها فيه أن تتحاشى العالم الخارجي كله وظلت تحدث نفسها في توتر وعصبية طوال الوقت التي أمضته في المطبخ ترفع القدر وتضعه كما لو أنه جلمود صخر حط من علِ أو كضربة رعد تصعق من يراها (في الحياة أموراً أهم بالنسبة لامرأة متزوجة , لا يجب أن تتذمري على النعمة التي تعيشي في كنفها ) وتكمل شجارها مع نفسها وتحرك الأطباق كما السيل الغاضب الذي يقتلع الأشجار من مكانها ويهيم أين يضعها, (إن النساء لا يتزوجن من يحببن بل يخترن الرجل الذي يصلح أن يكون أباً جيداً وزوجاً يمكن الاعتماد عليه أما الحب إحساس جميل لكن سرعان ما يتلاشى) عملت فترة بعد الظهر كلها وأعدت أصناف كثيرة ومختلفة لا تدري هي نفسها كيف أنجزتها, عاد فريد والأولاد والتفوا جميعا حول المائدة فقد كان فريد رغم كل شيء يعود دائما إلى البيت ويأخذ مكانه على المائدة كل مساء, كانت دائماً تطهو الطعام وهو يتناوله بغبطة وامتنان ولم ينس يوماً أن يشكرها هو والأولاد, ولكنها كانت تسعد أكثر بصخب وثرثرة أبنائها على المائدة فكان ذلك يغطي على الصمت الذي يخيم بثقل عليها هي وزوجها. ظلت بتول في حوار دائم مع نفسها أيام متتالية دائمة شاردة صامتة لكن لم تتوقف عن تبادل الرسائل اليومية مع باسم مما جعلها تنفصل عن حياتها الرزينة الهادئة لقد أدمنت كلماته وأصبحت تفتح بريدها في كل فرصة فهذا الغريب جعل امرأة مثلها تبوح بما يجيش في نفسها , وعلى ما يبدو أنه اعتاد هو الآخر على ذلك فعندما تكتب له كان يرد عليها على الفور وكان ذلك يشعره بالسعادة لأنه أصبح مركز اهتمام امرأة فهو الزوج المُهمل البائس رغم شهرته والوحيد رغم التفاف الناس حوله, أضحت بتول في حزن دائم ودون أن تدري أصبح جزءاً من كيانها واعترتها موجة من الشعور بالذنب, فبدأت تشي الرسائل بمسحة من الغزل تتلقاها كقطرات ماء على شفاه ظمئ , ولكي تهون على نفسها الأمر كانت تقول هذا غزل برئ وجيد لكلانا ولكن هذا الغزل أعاد إليها جزءاً من المشاعر التى فقدتها خلال زواجها, حوصرت بتول بين رجلٍ أهمل ورجلٌ مُهمل
التعليقات