العزاء في الفلسفة

ربما كان السؤاال الأهم لبؤثيوس، وهو يعايش الأيام الأخيرة من حياته، هو سؤال العدالة. فبؤثيوس الذي قضى حياته خادماً في بلاط الحكم، واهباً نفسه للمعرفة والحكمة، هاهو تتلقفه يد الخيانة والوشاية، فيصير مصيره الموت المحتوم. وكأنما كانت لديه قناعة قوية، بأنه لم يكن مذنباً، وأن ثمة خطأ ما في أن يموت الأبرياء في عالم يحكمه“جليل مدبر“. فكان أن كتب بؤثيوس في أيامه الأخيرة، التي قضاها مسجوناً، أحد أهم الكتب النثرية والشعرية، التي تنضح بالحكمة والمعرفة والقيم الأخلاقية السامية، والتي تشرح كيف أن لكل شيء جزاء، وأن ”الأشرار“ لن يفلتوا من العقاب، وأن الفلسفة، مهما أدت بك إلى التهلكة، إلا أن لها غاية سامية، بل هي التي فيها العزاء عن كل مصاب. فكتب أحد أهم الكتب في العصور الوسطى ”عزاء الفلسفة“.

الكتاب الصادر عن مؤسسة هنداوي في العام ٢٠١٧م ترجمة الدكتور عادل مصطفى،  والذي قام  بمراجعته عن اليونانية والتقديم له د. إحمد عثمان . الكتاب حَمَل عنوان ”عزاء الفلسفة“. الكتاب للفيلسوف ورجل الدين الروماني آنيسيوس مانليوس سيفيرنيوس "بوثيوس" المولود في العام ٤٨٠م والذي نُفذ عليه حكم الإعدام في عام ٥٢٤م إثر اتهامه بتهمة "الخيانة العظمى" من قبل ثيودريك الرابع ملك القوط الشرقيين، حيث قضى أيامه الأخيرة، التي كتب فيها هذا الكتاب، في سجن انفرادي.

وبالرغم من أن الكاتب رجل دين مسيحي إلا أن سفره الأخير خلا عن أي إشارة للديانة المسيحية مباشرة، بل كان الكتاب عبارة عن حوارات بينه وما بين سيدة متخيلة هي ”الفلسفة“. وقد تمحور الكتاب حول أسئلة كان يطرحها الرجل ،الذي يقضي أيامه الأخيرة من حياته، على شكل أسئلة يطرحها على هذه السيدة، وكأنما كان بؤثيوس يُحمّلها أسئلته الشخصية، مطالباً إياها بأجوبة قد يحتاجها كل من هو في مكانه، فالرجل، كما قلنا، قد وهب نفسه للمعرفة والحق والجمال، كما يتبين من خلال ما سطره من كلمات، ولكن ها هي الفلسفة تفضي به إلى الموت.

لكن القارئ للكتاب، لا يمكن له المرور ببساطة عليه، أو اختزاله بوصفه مجرد عزاء أو سلوى، فالكاتب، رغم صعوبة التدوين أثناء العد التنازلي للحياة، إلا أنه كتب بهدوء من يحتسي كوب قهوة صباحي على شرفة نافذة مطلة على بحر، حد أن الكاتب دانتي اليجيري صاحب السفر الشهير ”الكوميديا الإلهية“ كان قد استلهم هذا الكتاب أثناء نفيه إلى فلورنسة، وقادماً قام باستلهام شخصية بؤثيوس أثناء كتابته الكتاب.

كان من الممكن لبؤثيوس، في أيامه الأخيرة تلك، التي قضاها وحيداً في زنزانته، أن يترك لنا كتاب سيرة شخصية، تفضح تلك المكيدة التي أودت به إلى السجن ثم الإعدام، لكن بؤثيوس آثر أن يُخلّد لنا الدرس المستفاد من حياته، بصورة لا يمكن إلا لشخص صادق وجدي القناعة فيما يعتقد، أن يرى أن من وراء حياته الشخصية تكمن قيم أسمى وأكبر من مجرد التجربة السياسية أو الاجتماعية. وهو ما نجح فيه، بل ما جعل فلاسفة عصور النهضة، الذين تلو عصر بؤثيوس أن يجعلوا من الكتاب مرشداً وملهماً لهم أثناء حياتهم، كما حدث عند صاحب الكوميديا الإلهية - الذي كان قد حوكم ظلما كما حدث لبؤثيوس- فقال عنه: ”بؤثيوس هو الروح المباركة التي تكشف زيف العالم“.

بقي أخيراً أن نقول إنه يفقدنا الكثير من سيرة هذا الفيلسوف، بالذات قصة الدسيسة التي دُبرت له، لكن ما يمكننا الجزم به، أن الرجل كان الأشخاص النادرين الذين ألزموا نفسهم بالبحث عن المعرفة والجمال، في عالم كانت تسوده الإنتهازية والظلامية، وأننا أمام رجل حكيم، صقلته التجربة، ورأى في موته ما لم يره جلاده. الكتاب استعرض مجموعة من القضايا والمفاهيم، كالعدل والحظ، وتبدل الزمان والإيمان والمال وغيرها، بأسلوب شاعري جزل، وكانت الفلسفة دائماً ما تجيب على طارح الأسئلة، الذي كان هو بؤثيوس، الذي جعل من حياته، التي قلبت رأساً على عقب، نموذجاً للحياة وتقلباتها، ومن الفلسفة العزاء الوحيد، ومن الحق والعدل والجمال، شعاراً للحياة، مهما حدث.

مجتزأ صغير من ”عزاء الفلسفة“

لماذا يزدهر الأشرار؟

أنشدت "الفلسفة" هذه الترنيمة الشجية الرقيقة بجلال ورصانة. غير أني لم أكن قد نسيت بعد ما يعتلج بصدري من الأسى. فعاجلتها وهي تهم باستئناف حديثها قائلاً: أنتِ أيتها المبشرة بالنور الحق؛ كل ما أفضيت به حتى الآن يبدو ملهماً لمن يتأمله وبالغ الحجة لمن يتمعن فيه. لقد ذكرتني بما أنسانيه الحزن الذي ران علي لما لقيت من الظلم، وكنت أعرفه قبل ذلك حق المعرفه. إلا أن علة حزني الحقيقية هي هذه: أن أرى الشر قائماً في عالم يديره إله خير، بل أجد هذا الشر يمضي في طريقه بغير عقاب. ألا تبدو لك هذه الحقيقة وحدها مثيرة لكل عجب؟ غير أن هناك شيئاً لعله أكثر عجباً من ذلك: وهو أن الشر حين يسود ويزدهر فإن الفضيلة تمضي بغير جزاء، بل يدوسها الأشرار بأقدامهم، وينالها العقاب بدلاً من أن ينالهم. فإن يحدث هذا في مملكة إله شامل العلم وشامل القدرة ولا يريد إلا الخير، فليس شيء أدعى من ذلك إلى الشكاة والحيرة.

فأجابت: نعم، كم يكون أمراً بالغ الغرابة والبشاعة حقاً لو أنه مثلما حسبت؛ لكأني به أشبه بدار مرتبة لسيد جليل يُعتنى فيها بالصحون الرخيصة بينما تهمل النفائس ويعلوها القذر! ولكن الأمر ليس كذلك. فإذا صحت الإستنتاجات التي إنتهينا إليها، ولو تأمّلت فيها جيداً لتعلّمت من الخالق نفسه، الذي نتحدث الآن عن حكمه وإمرته، أن الأخيار دائماً أقوياء، والأشرار عاجزون، وتعلمت منه أيضاً أن الرذيلة لا تعدم الجزاء، والفضيلة لا تعدم المثوبة، وأن الطيبين ينعمون دائماً بالسعادة والأشرار دائماً أشقياء محرومون، وهنالك الكثير من الإعتبارات المماثلة التي سوف تعضّد لك هذا الرأي بقوة وصلابة إذا ما هدأت ثائرتك وعُدت إلى صوابك.
لقد تبينت صورة السعادة الحقة التي أظهرتك عليها الآن، وعرفت أين تكمن. فإذا ما ضربت صفحاً عما لا ينبغي الوقوف عنده، فسوف أدلك على الطريق الذي يعود بك إلى وطنك. وسوف أمنح روحك جناحين تحلق بهما، فتزايلك الكروب جميعاً، ويكون بوسعك أن تعود سالماً إلى وطنك الأصلي. سأكون لك الدليل والطريق والوسيلة.

"إنَ لديّ أجنحةً رشيقة


تُحلّقُ بها في أعالي السماء

 
عندما يتّخذُها العقلُ
يزدري الأرض المقيتة من تحته


ويعلو إلى الفضاء العريض


ويرى السحاب وراءه

وقد تخطاه بعيداً


ثم يجوز خلال نطاق النار


التي تفورُ من فوق اهتياج الهواء المحموم


حتى يصعد النجوم


يلحق بالشمس في مسارها


أو يَتْبعَ ساتورنوس (زحل) القديم البارد


حارس الكوكبة المضيئة


أو يتخذ مسار أي نجم
من النجوم  التي تُرصّع الليل


وبعد أن يشبع ترحالاً


يغادر السماء ويرودُ النطاق الأخير للأثي


ويحوز الآن على الضياء الأجلّ


فها هنا

ملك الملوك يحمل صولجانه


ويمسك بأّعنّة كل شيء مسكاً وثيقاً


ويُحرك العربة المجنحةَ وهو ثابت


مُدبر العالم كله يتألق نور


فإذا ردك هذا الطريق إلى هناك


الطريق الذي نسيته وتريد الآن أن تتذكر

ه
فلسوف تقول:

أنه هو...
هذا وطني، منه أتيتُ


وفيه سأبقى ولن أبرح أبداً"

التعليقات